اختيار بعض المدن العربية التى ترشحها دولها لتكون مدينة للثقافة العربية، بدت وكأنها بداية ومدخل لعودة
الثقافة والمثقفين والمبدعين إلى صدارة المشاهد السياسية والاجتماعية فى الإقليم العربى، وإدماج الثقافة، والإبداع إلى قلب الحياة العربية وتدافعاتها بحيث تصبح جزءا من أنسجة اليومى وتفاعلاته، ولكن التجربة يبدو أنها لم تحقق الوعود التى حملتها عند انطلاقها، وأصبحت جزءا من العمل الثقافى البيروقراطى مع استثناءات محددة، ومن ثم يبدو من الأهمية بمكان إعادة النظر فى كيفية اختيار المدن التى ستغدو مدينة للثقافة والأحرى الثقافات العربية، وفق تعددية مكونات الدول والمجتمعات، واختلاف مستويات التطور الاجتماعى والسياسى والثقافى. من هنا يثور تساؤل ما هى الأهداف التى رمت إليها عملية اختيار مدينة من المدن لتغدو مدينة للثقافة العربية؟. ثمة عديد الأهداف التى يمكن لنا إيراد بعضها فيما يلى:-
1- إعادة الاعتبار إلى مفهوم المدينة التحديثى والحداثى باعتبارها مركز الإنتاج الثقافى والإبداعى، وحاضنة ميلاد الفرد الذى تعثر كثيرا فى عديد من المدن العربية الشهيرة، والتى تراجعت ثقافاتها الحداثية من حيث انهيار بعض معالمها العمرانية وتخطيطها، وتمدد العشوائية وأشكال الفوضى فى البناء، على نحو أدى إلى تشويه بقايا المراكز والأنسجة الحضرية وتفسخها، وتشويه جمالياتها بل امتدت إلى بعضها أيادى الإهمال واعتراها الوهن والقبح، وأحاطت بها بل وداخلها أشكال من الفوضى. من هنا كان الهدف المرجو من اختيار بعض المدن هو جذب اهتمام النخب السياسية الحاكمة، والجماعات الثقافية العربية إلى ضرورة الاهتمام بالمدينة وإعادة التفكير فى ثقافاتها التى تآكلت مجددا، فى ظل عمليات الترييف المستمرة فى نظامها، والسلوك الاجتماعى والقيمى التى اجتاحت المدن العربية فى ظل اتساع وارتفاع معدلات الهجرة الداخلية من الأرياف إلى المدن فى ظل الاستقطاب الحضرى الناتج عن اتساع معدلات البطالة، وهجرة المتعلمين، ونقص الخدمات العامة، وتهميش الأرياف فى السياسات الاجتماعية، على نحو ما تم فى محافظات الصعيد فى مصر، على سياسة الانفتاح الاقتصادى وتطوراتها الكبرى حتى الخصخصة، بحيث أصبحت تشكل ثقافة التهميش والوعى به، أحد أبرز عوامل جذب بعض الشباب إلى الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية، والانخراط فى الحركة السلفية، وغيرها من الجماعات. بعض هؤلاء حملوا معهم فى هجرتهم الطوعية إلى المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية. نمطا من التدين السلفى والجهادى المتشدد تمدد ويحملُ فى أعطافه جذور الغضب السياسى إزاء المدينة والنخب الحاكمة والفئات الوسطى العليا والوسطى- الوسطى، ومن ثم ركزوا على أهداف مدينية ورمزية للعنف ذى الطبيعة الإرهابية، والأقنعة الدينية. من هنا تمدد بعض هؤلاء فى بعض ضواحى المدينة كالقاهرة والإسكندرية وهاجموا بعضا فى المدن الجديدة الحديثة والمنتجعات السياحية فى شرم الشيخ ودهب لضرب السياحة، ومحاولة تعرية نظام مبارك أمام الإعلام الكونى، والإدارات السياسية الغربية لإثبات عدم استقراره وعدم قدرته على فرض النظام. 2- تجسير بعض الفجوات بين الثقافة العالمة والفنون الموسيقى والآداب والنحت والرسم والتصوير والعمارة.. الخ-، وبين الثقافة الشعبية التى غزتها العشوائية والابتذال والسوقية، لأنها تركت للتغييرات الاجتماعية السريعة داخل الفئات الأكثر فقرا، وانعزلت ثقافتهم عن ثقافة غيرهم من الفئات الاجتماعية الوسطى/الوسطى والوسطى/ العليا، بل استطاع بعضهم فرض أذواقهم على هذه الفئات رديئة التعليم والتكوين، بحيث تحولت بعض أفراحهم ومسراتهم إلى استهلاك بعض الأغانى والموسيقى الشعبية المبتذلة، وظهر بعض المطربين والمطربات الشعبيين فى أفراح النخبة الحاكمة، ورجال الأعمال والأمثلة عديدة على ذلك.فى هذا الإطار يمكن مد المناطق الهامشية والعشوائية ببعض من السلع الثقافية الملائمة، للأسباب التالية:1- تم التركيز على بعض العواصم العربية أولا، على الرغم من ترييفها، وبدونَّة بعضها وتشوهها، وتحولت إلى مناسبة ترويجية للسياحة وليست الثقافة، وتم الاهتمام بالجوانب الخاصة بتجميل صور بعض النخب الحاكمة والأنظمة السياسية، بحيث تحولت المناسبات إلى استعراضات أكثر منها سياسة جادة وتخطيط وفرصة لإعادة التفكير الخلاق فى إنقاذ بعض هذه العواصم والمدن من أمراضها المعمارية وتشوهاتها وقبحها وعشوائية تمدداتها الحضرية المشوهة.
2- غياب رؤى وسياسات ثقافية للنخب والأنظمة الساسية الحاكمة، تحاول أن تضع إطارا للعمل الثقافى الرسمى، والطوعى يحتفى بالمبادرات الفردية والجماعية المحفزة على الإنتاج الإبداعى والأنشطة الثقافية التى توجه إلى القطاعات الشعبية الواسعة، بحيث تكون الثقافة جزءا من حياتهم اليومية، ورافعة للتغيير القيمى والاجتماعى، وأحد مكونات النظام التعليمى ومناهجه لإنقاذه من النزعة النقلية ورداءة مناهجه ومجافاة بعضها لعلوم العصر والفكر النقدى. من هنا لابد من دراسة تجارب المدن الناجحة وأسبابها، وفشل مدن أخرى فى أن تكون فعلا عاصمة ثقافية عربية مستمرة وليست لسنة فقط وتعود إلى سابق عهدها من الإهمال واللا مبالاة
لمزيد من مقالات نبيل عبدالفتاح رابط دائم: