رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

حيل «إسماعيل صدقى» باشا أمام الوفرة اللاعقلانية!

ينظر غالبية الناس فى بلادنا إلى البراجماتية على أنها انتهازية أخلاقية لاتستحق الاحترام، وهو فيما أعتقد ما يحتاج إلى تصحيح للمفاهيم، للتمييز بين البراجماتية العملية، وبين المثالية المتعالية التى لا ترى إلا المطلق فى محاولة يائسة لتشكيل الواقع حسب النظرية الوهمية المتخيلة، بينما تطرح البراجماتية معيارا بسيطا لا يحتاج إلا للتخلى عن الغرور، وادعاء امتلاك الحقائق الكاملة المطلقة، بجعل الأثر العملى للأفعال، هو المحدد الأساسى فى صدق المعرفة، فالقيمة تتحدد بالممارسة العملية، واستخدام العقل لخدمة الحياة، عوضا عن الغرور الزائف الذى يرحب بالموت، عن التفكير والاجتهاد وإعمال العقل!

الانهيار العربى الحادث، ما هو إلا مآل منطقى للوقوع العربى فى فخ الأيديولوجيات والنظريات المطلقة، والتى لم تكن الأنظمة التى سقطت ـ أو كانت على وشك السقوط ـ إلا نوعا منها، كشجرة كانت تخفى ما فى الغابة من أيديولوجيات أخرى مغلقة، وعند إزالة الشجرة انكشف جوهر المأساة من تباينات فى النسيج العربى لم يمنعها من التناحر إلا سطوة الدولة المستبدة!

أصبح المرء فى حيرة من أمره أيحمد لهذه الأنظمة المستبدة التصدى لتولى السلطة، فى بنية اجتماعية متخلفة، لتضعها على أولى خطوات التقدم بالتعايش فى إطار الدولة، أم يحملها الإخفاق فى تشكيل بنية اجتماعية حديثة، بوقف دينامية إنتاج نخب من منظومة تعليمية سليمة، ومناخ فكرى حى يكفل حرية الاجتهاد، وحمايته من الفلسفة الشعبوية الكاسحة لنبتات الفكر، ولأن البكاء على ما فات ليس من حسن الفطن، فلا يوجد أمامنا إلا التدبر مما حدث، وأجرى الدماء أنهارا، بالتواضع قليلا، والخروج من فخ الأيديولوجيات التى قسمت المجتمعات، ومنعت التجانس الاجتماعي، إلى دولة حديثة تحترم حقوق الإنسان، فضلا عن حقوق المواطنة، وإتاحة الفرصة للنخب المثقفة المتعلمة من الاتصال بالجماهير، التى تتشوق لثقافة بديلة عن الفكر الماضوى المتخلف، الذى تم تمويله وتقويته ونشره بكل الوسائل كبديل للثقافة القومية أو الوطنية، فتعددت الأصنام الأيديولوجية، فأريقت الدماء البريئة على مذابحها.

كان أبى رحمة الله يتحسر على النخبة المصرية قبل ثورة «يوليو» ويرى أن الافتقار العام للحس الحضاري، يرجع إلى تآكل هذه النخبة المتعلمة المثقفة المنفتحة على ثقافة العصر، وتأميم الساحات السياسية والاقتصادية والثقافية أفسح المجال أمام الانتهازية الجاهلة، وطمس النخب الجادة وعدم تفعيلها، فانكفأت على نفسها وفقدت القدرة والفاعلية، وكذلك الرغبة، فيردد رحمه الله «أن البلاد بنخبها»، فهى العقل المدبر والعيون القادرة على رؤية الوقائع وتصور العواقب والنتائج، ولأننا فى حالة مراجعة فلا بأس من الاستفادة من آراء آبائنا، وإن صدمت الثوابت والمسلمات التى اعتدنا عليها!

أول وأبرز ما يستحق المراجعة الرجل الوطني، والسياسى الداهية، الذى نال أشد أنواع النقد وأبشع الاتهامات فى وطنيته، رغم تاريخه المشرف الذى أثبتت الحوادث المؤلمة والتجارب العملية صدق نبوءاته وحسن رؤاه، ولكن لوفرة اللاعقلانية فى البنية الاجتماعية والانتهازية السياسية الشعبوية جعلت من البراجماتية السياسية التى فهمها بعمق وكياسة نقيصة يتهم بها على غرار أفلام حسن الإمام!.

إنه الاقتصادى البارز «إسماعيل صدقي» باشا الذى أنقذ البلاد من الانهيار الاقتصادى فى الكساد العالمى عام 1930، والذى كتب وثيقة الاستقلال المصرية، ليعرضها الوفد المصرى فى مؤتمر «فرساي» وتم نفيه مع «سعد زغلول» وأعضاء الوفد، لتقوم ثورة 1919، وعندما قرأت أخيرا كتابه «مذكراتي» أدركت أن والدى كان محقا، بأن لدينا تاريخا ونخبا تستحق المراجعة لتأخذ مكانها اللائق فى التاريخ، ونستفيد منها فى الحاضر، وكانت آخر نصيحة منه للنحاس باشا، أن تكون سياستنا أولا وقبل كل شيء مصرية تقدمية، تهدف لتقدم مصر لا سياسية عاطفية، لتكون مصر أولا، بل وكانت لديه الشجاعة ليعارض دخول الحرب فى عام 48، فيقول: كم كان عجبى حينما تحدثت إلى أحد الوزراء، عن الاقتصاديات فى حال الحرب، فكان رده: اقتصاديات إيه يا باشا، أنا راضى أمشى عريان فى سبيل التخلص من الصهيونيين!، فكان تعجب «صدقي» باشا أن الوفرة اللاعقلانية تصل لمن بيدهم مصائر الأمور، وتنبأ صراحة بالصلح مع إسرائيل، وكان يريده ونحن أقوياء، رافضا التشدق بالألفاظ والتباهى بالنعرة الجوفاء، وحذر من أضرار السياسة البراقة والمزايدات، وهى أمراض العالم العربي، والتى أعيته فيها الحيل!، وكان يفضل لمصر أن تكون فى مؤخرة المتمدنين على أن تكون زعيمة المتخلفين!، وقال لكامل الشناوى فى حوار بالأهرام خلاصة القول، إن كثيرين غيره يدرسون المسائل مثلما يدرسها، وينتهون منها إلى الرأى الذى ينتهى إليه، ولكن حين يتكلم هو يعبر عما فى رأسه، ولكنهم حين يتكلمون يعبرون عما فى رأس الناس.

«مذكراتي» السيرة الذاتية للمعلم الأول للبراجماتية المصرية، درس فلسفى طويل، يشرح فيه الزعيم الوطنى أسانيده لكل إنجازاته الوطنية، من إنشاء كورنيش إسكندرية، إلى الحفاظ على وحدة وادى النيل بين مصر والسودان، وكلها مواقف بعيدة النظر لم تهتم بإرضاء الناس بقدر الحفاظ على مصالحهم، وتطوير حياتهم بالمنفعة العملية، ليس بالمزايدات اللفظية لفخ الأيديولوجيات من الوفرة اللاعقلانية، التى أوصلتنا للجحيم العربي!

لمزيد من مقالات وفاء محمود

رابط دائم: