رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

«ثغرات» التقرير البريطانى حول حرب ليبيا

رسالة لندن: منال لطفى
كاميرون وساركوزى أثناء زيارتهما لليبيا
انفقت بريطانيا على حرب ليبيا لإطاحة نظام معمر القذافى من مارس 2011 إلى أكتوبر 2011، أكثر من 13 ضعف ما أنفقته على مرحلة إعادة البناء والأعمار.

هل هذه الحقيقة مؤشر على عوامل الفشل فى تجربة التدخل العسكرى التى تم تصويرها آنذاك بـ«أنجح» و«أسهل» تدخل عسكرى غربى فى المنطقة؟. فالتفاؤل الدولى كان بالغا. وعواصم غربية صورت التدخل العسكرى الجوى بدون جنود غربيين على الأرض بـ«النموذج» الذى ينبغى انتهاجه فى المستقبل. والبهجة كانت عارمة وظاهرة على وجوه رئيس الوزراء البريطانى السابق ديفيد كاميرون والرئيس الفرنسى السابق نيكولا ساركوزى عندما زارا ليبيا بعد انتهاء الحرب. فقد أعرب كاميرون عن «دهشته الايجابية» من استمرار مؤسسات الدولة فى العمل، بدءا من البيروقراطية وحتى المستشفيات والمدارس والطرق والنظام العام.

والخطوط العريضة كانت واضحة. ففى اكتوبر 2011 دعا رئيس المجلس الانتقالى الليبى آنذاك مصطفى عبد الجليل للمصالحة الوطنية، وتعهد بدستور جديد يقر عبر استفتاء شعبى وفترة انتقالية عامين لتأسيس نظام ديمقراطي. هذا كان 2011، اليوم الصورة مختلفة تماما. فهناك تدهور كامل فى الأوضاع الأمنية فى ليبيا، وانهيار تام فى مؤسسات الدولة، وانتشار هائل للميلشيات المسلحة، وتقسيم ليبيا بين هذه الميليشيات وعلى أساس مناطقى وقبلي، وتنازع على النفط وانخفاض انتاجه 70% بسبب الحرب الأهلية، وتدهور أقتصادى كبير، وتغلغل الجماعات المتطرفة والإرهابية. بينما انهارت كل المؤسسات التى كان يفترض أن تدير المرحلة الانتقالية، بينما دعوة الحوار الوطنى لم تسفر عن شئ.

التقرير الذى أصدرته لجنة الشئون الخارجية فى البرلمان البريطانى حول حرب ليبيا يعالج الأخطاء والخطايا التى شهدتها الحرب من جانب بريطانيا وفرنسا فيما يتعلق بالقرار نفسه والاستعداد لمرحلة ما بعد سقوط النظام، ثم الأخطاء والخطايا التى وقعت على الأرض لاحقا والتى كان من الصعب تجنب الكثير منها. لا يدين التقرير فقط «ضعف المعلومات الاستخباراتية» و «عدم التحضير لما بعد القذافي»، إنه يفعل أكثر من هذا بكثير. أنه يلقى بظلال كثيفة من الشك على نجاعة وفاعلية أى تدخل عسكرى غربى مستقبلى فى المنطقة. فبحسب ما يوضح التقرير هناك دائما عوامل على الأرض من الصعب جدا الامساك بها ومعرفة كيف ستتطور وكيف ستؤثر على المسار النهائى لأى تدخل عسكرى بغض النظر عن أهدافه.

ويقول التقرير إن قرار الحرب التى قامت به بريطانيا وفرنسا بدعم من امريكا والجامعة العربية وحلف الناتو والكثير من دول العالم، كانت نقطته المركزية هى «حماية المدنيين». لكن هدفه تحول بشكل انتهازى من «حماية المدنيين» إلى تغيير النظام» بعد بدء الحملة العسكرية ضد النظام الليبي. ويوضح التقرير أن استراتيجية التدخل «لم تشمل تصورا لإدارة ليبيا ما بعد القذافى وأن الحرب استندت إلى افتراضات خاطئة وعدم فهم كامل للبلد والأوضاع داخله». وبالتالى كانت النتيجة حرب ميلشيات وحروب قبلية ومناطقية تهدد وحدة الأراضى الليبية، وتغلغل داعش وتنظيمات متطرفة. وفوق هذا أزمة انسانية داخلية، وأزمة مهاجرين ولاجئين دولية، انعكاساتها الواضحة فى أوروبا هى صعود اليمين بشكل مقلق.

وفى مراجعته من جديد للسياقات التى اتخذ فيها قرار الحرب، يقول التقرير إن «خيارات أخرى غير الحرب كانت ممكنة». فالحوار السياسى مع نظام القذافي» كما يشير التقرير كان يمكن ان يقود إلى حماية المدنيين بدون الحاجة لشن الحرب. فإجراء اصلاحات سياسية كانت تكلفته ستكون لكل من ليبيا وبريطانيا بدلا من خيار تغيير النظام بالوسائل العسكرية بدون الاستعداد والتخطيط لما بعد اطاحة النظام الموجود.

ويوضح التقرير أنه كان على بريطانيا وفرنسا اللتين قادتا العملية العسكرية «مسئولية إعادة إعمار ليبيا إقتصاديا وسياسيا». ويستطرد: «لكن فهمنا الناقص للقدرات المؤسسية للدولة عرقل تقدم ليبيا فى إرساء الأمن على أرض الواقع والأستفادة من الموارد المالية وغيرها من المجتمع الدولي». ويخلص التقرير إلى ان التحرك العسكرى البريطانى فى ليبيا كان جزءا من خطة تدخل عسكرى «سيئة التخطيط نتائجها لا تزال تتفاعل»، وأن حكومة الوفاق الوطنى التى أشرفت الأمم المتحدة عليها إذا ما فشلت ستغرق ليبيا فى حرب أهلية كاملة على الأراضى والنفط.

الاخفاقات فى ليبيا تبدأ وكما يعالجها التقرير بدءا من التحضير للحرب والحرب نفسها وإدارة ما بعد الحرب. وحمل التقرير كاميرون، وساكوزى ضمنا، مسئولية الكثير من هذه الاخفاقات. لكن ما زاد الأمور تعقيدا هو التطورات على الأرض.

وفى هذا السياق هناك 3 تطورات أساسية ساهمت فى تدهور الوضع فى ليبيا.

أولا: الاقتتال الداخلى بعد انهيار النظام الليبي. فانهيار أى نظام تترتب عليه تفكك الكثير من مؤسسات الدولة بسبب هروب العاملين فى تلك المؤسسات خوفا من العقاب والملاحقة. وهذا ما حدث لأجهزة الدولة الليبية بعد سقوط القذافي. فالعاملون فى الجهاز الأمنى والمخابرات والجيش تركوا وظائفهم تحسبا لما يمكن ان يتعرضوا له من ملاحقة وعقاب.

لكن ما زاد الأمر فداحة، أن سقوط النظام أعقبه اندلاع صراع داخلى بين المكونات المحلية، وهذا يصعب ويعقد أى عملية تحول أو انتقال سياسي. وبالنظر للحالة التونسية يمكن ملاحظة الفروق. ففى الحالة التونسية سقط النظام، لكن لم تندلع حرب داخلية. ومع ان مسار الانتقال السياسى فى تونس لم يكن سلسا، إلا انه لا يمكن مقارنته بصعوبة الحالة الليبية. فسقوط نظام القذافى واندلاع صراع داخلى مسلح بين الميلشيات والقبائل والمناطق، زاد من تعقيد الوضع وكانت تكلفته السياسية والأمنية والاقتصادية كبيرة جدا. والجزء الباهظ من هذه التكلفة هو التكلفة الأمنية، فبدون أمن لا يمكن الحديث عن نظام سياسى أو نمو أقتصادي. وفى الحالة الليبية كانت النتيجة انتشار السلاح بشكل غير مسبوق، وغياب القانون، وتوغل الميليشيات وعدم وجود سلطة مركزية من أى نوع.

ثانيا: عدم فهم تأثير الميراث الذى تركه النظام الليبى على الأرض. وهذا عامل خارج سيطرة قوات التحالف فى ليبيا. فما تركه القذافى على الأرض حدد مخرجات هذا الصراع كما نراها حاليا. فالاعتقاد السائد أن نظام القذافى لم يترك خلفه نظاما سياسيا، بل ترك «دولة بلا مؤسسات». لكن هذا ليس دقيق تماما. صحيح أنه لم تكن هناك احزاب سياسية، لكن كانت هناك لجان شعبية تتبع للنظام وتدير كل شئ باستثناء الدفاع والخارجية.

والميراث الذى تركه القذافى هو فكرة «المشاركة الشعبية»، فالليبيون لديهم تلك التجربة فى وعيهم الجماعي، وإن كانت شكلية أو اسمية، إلا أنها أثرت على تحركات الكثير منهم بعد سقوط النظام. فالكثير منهم حمل السلاح لحماية نفسه ومنطقته تطبيقا لأفكار «المشاركة المباشرة».

الموروث الآخر الذى تركه القذافى هو انعدم الثقة فى الأحزاب السياسية وهذا انعكس فى رفض الليبيين عموما فكرة الأحزاب السياسية. فعدد المستقلين فى البرلمان الليبى أكبر من عدد أعضاء الأحزاب. ولا شك أن هذا عقد عملية البناء السياسى لأى مؤسسات بعد سقوط نظام القذافي.

ثالثا: سوء إدارة المرحلة الانتقالية خاصة على الصعيد الأمني: فقد تركت المؤسسات الأمنية بدون رقابة أو محاسبة وبلا موارد أو تدريب. فجهاز الشرطة والجيش النظاميان تفككا مع تسرب عناصرهم خوفا من ملاحقة رجال الميلشيات الذين استهدفوا مراكز الشرطة فى ليبيا. الفراغ الأمنى دفع المجلس الوطنى الانتقالى فى ليبيا لقرار دمج الميلشيات فى الجهاز الأمنى الرسمي. لكن رجال المليشيات لم يكونوا مدربين أو مؤهلين للقيام بمهام الجيش أو الشرطة. وبدون تدريب وبدون رقابة انتشرت ممارسات الفساد ماليا وتنظيميا.

فصائل أخرى من الميلشيات طلبت الانضمام للمؤسسات الأمنية الحكومية، كجماعات وليس أفرادا. وعندما رفض طلبهم ,قررت هذه الميلشيات ومن ضمنها «درع ليبيا» ان تكون هى الجيش. وما زاد الأمور صعوبة أن السلطات الانتقالية الليبية رفضت استقبال فرق مراقبة غربية للإشراف على إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية. وقد كلف هذا القرار ليبيا كثيرا. فبحسب نظرية «النافذة المكسورة»، الأمن مسألة نفسية. فإذا ظهر ان هناك شرخا او نقطة ضعف، تتحول نقطة الضعف المتخيلة هذه إلى نقطة ضعف حقيقة لأنها تشجع الآخرين على التهديد أو التخويف. وهذه الديناميكية تحديدا هى ما حدث فى ليبيا بين السلطات الانتقالية والميلشيات. فرفض قبول مهمة أمن دولية للإشراف على إعادة بناء المؤسسات الأمنية الليبية أعطى المليشيات الشعور أن هناك نقاط ضعف يمكن استغلالها وأختراق مؤسسات الدولة عبرها وهو ما كان.

واليوم استعادة مكانة الدولة فى ليبيا تبدو مهمة صعبة جدا. فالمليشيات التى كانت موجودة 2011 تختلف تماما عن الميلشيات الموجودة اليوم. فاليوم أسوأ بكثير، فهى أشبه بمافيا وعصابات تهريب للبشر والنفط والسلاح. واصلاحها ونزع تسليحها ودمجها فى المجتمع ستكون مهمة شديدة الصعوبة، خاصة وأن الجيش النظامى الليبى يتكون حاليا من نحو 17 ألف شخص، وهناك نحو 250 ألف شخص يقولون إنهم ينتمون للميلشيات.

فى المحصلة يخلص تقرير حرب ليبيا إلى حقيقة مؤلمة وهى أن «عدم شنها كان أفضل». فبرغم كل الشعارات البراقة انتهت التجربة نهاية مؤلمة جدا لليبيين وللعالم. ولا يحاول التقرير إيجاد أعذار للفشل، فهو يتهم كاميرون شخصيا بالمسئولية عن الاخفاقات الكبري.

تقرير البرلمان البريطانى حول حرب ليبيا يستحق الإشادة، لكنه أيضا ملئ بالثغرات. فهناك جوانب حاسمة لم يتطرق اليها التقرير بمزيد من التفاصيل من بينها الاستهانة بقوة القذافى ونظامه وميراثه السياسى على الارض عبر انصاره والجماعات التى شكلت الارضية لنفوذه. ثم حقيقة تهديده للمدنيين الليبيين. وهل كانت اطاحته هى الحل الوحيد، أم ان اصلاحا من الداخل بضغوط دولية متزايدة على نظام القذافى كان سيكون خيارا أفضل كما يقول التقرير ضمنا. وهذه نقطة إشكالية. فمن الصعب التقليل من حجم الخطر الذى كان يشكله القذافى على المدنيين. ثغرة أخرى وهى أن التقرير نفسه اعتمد على شهادات مسئولين بريطانيين مدنيين وعسكريين وخبراء وأكاديميين، الكثير منهم لم يقض أى وقت فى ليبيا. لكنه لم يأخذ شهادة ليبيين، خاصة هؤلاء الذين شاركوا فى الاحتجاجات الأولى ضد النظام الليبي.

تقرير الحرب على ليبيا هو التقرير الأول الذى يصدره «مجلس الأمن القومي» البريطانى وهو المجلس الذى أسسه كاميرون نفسه للإشراف على قضايا الأمن القومى البريطاني، والتنسيق الاستخباراتي، ووضع الاستراتيجيات على الأرض. والهدف الأساسى للمجلس هو توفير «آلية» حكومية لمتابعة السياسة الخارجية وتوثيق عملية اتخاذ القرار للتدخل العسكري، وذلك ردا على غياب أى آلية خلال غزو العراق. فأعضاء مجلس الأمن القومى البريطانى يحضرون كل المناقشات ويسجلون كل المداولات الخاصة بقرارات الحرب، وذلك على النقيض من سنوات حكم رئيس الوزراء الأسبق تونى بلير، الذى وجدت «لجنة شالكوت» حول حرب العراق صعوبة كبيرة فى الحصول على أى أوراق تدون وتسجل المداولات اليومية بشأن قرار حرب العراق، فالكثير منها لم يكن رسميا.

وما يفعله التقرير حول ليبيا و«مجلس الأمن القومي» البريطانى هو جعل أى قرار مستقبلى بالحرب عملية صعبة ومعقدة، والأهم عملية خاضعة للمساءلة الوطنية والتحقيق فى البرلمان والاستجواب وتمحيص الأدلة. وفى غياب أى رادع دولي، مثل المحكمة الجنائية الدولية أو مجلس الأمن، ربما تكون آليات مثل لجان تحقيق وطنية تابعة للبرلمان أو مجلس أمن قومى هى الآليات الرادعة أمام مغامرات عسكرية غربية مستقبلية فى المنطقة.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق