ماذا بعد الحج؟ سؤال يجب ان يتوجه به إلى نفسه كل من أنعم الله عليه بأداء فريضة الحج، فبعد أن أحرمت ولبيت وطفت وسعيت ووقفت على جبل عرفات ورميت الجمار وذبحت الهدى وحلقت، وطلبت المغفرة والرحمة والتوبة من الغفور الرحيم، وعاهدته وعاهدت نفسك، على ألا تعود إلى معصيته، ورجعت من ذنوبك كيوم ولدتك أمك، قد تحدثك نفسك بان تعود إلى فعل شيء يغضب الله تعالي!.
وماذا بعد أفضل أيام الله تعالى وروعة العبادة والطاعة فى موسم الحج؟ وكيف يحافظ المسلم على توازنه التعبدى والتربوى بعد هذه الرحلة الممتعة الحافلة بأنواع الطاعات، التى وقف فيها الحاج على المشاعر المقدسة، وذكر الله تعالى فيها، وسأل حاجاته الدنيوية والأخروية، وتضرَّع إلى ربه فى مغفرة ذنبه وستر عيبه؟ هل يعود إلى بلده ليبدأ حياةً جديدة يبعد فيها عما يخالف ما عاهد عليه ربه فى طوافه ووقوفه، من التوبة والعزم على فعل الطاعات، والتنزه عن المحرمات، ويكون قدوةً لأهله وأقاربه وجيرانه فى حب الخير؟ أم يعود إلى بلده ثم لا يلبث أن ينسلخ من حاله الذى كان عليه، فيفرط فى الطاعات ويعود إلى ما كان يعمل من المحرمات؟
علماء الدين يؤكدون أن المسلم الذى أكرمه ربه تعالى بأداء مناسك الحج ينبغى أن يستلهم الدروس والعبر المستفادة من هذا الركن العظيم الذى هو الركن الخامس من أركان الإسلام وتجتمع فيه مختلف أنواع العبادات وأن يطبقوها بعد عودتهم لبيتهم وأوطانهم. ودعا علماء الدين، ضيوف الرحمن العائدين من رحلة الحج، الى المحافظة على الاستمرار والمداومة على فعل الخيرات وترك المنكرات وتجنب الموبقات، حتى يكونوا فى معية الله تعالى ورحمته ومغفرته، مؤكدين أن المداومة على الطاعات من علامات قبول العمل، وأن مواسم الخير فى العبادات والطاعات التى نوعها الشارع الحكيم، تعد فرصة للالتزام بالتقوى والاستقامة ورفع الدرجات، والتخفف من السيئات، محذرين الحجاج من العودة الى الوقوع فى المعاصى والذنوب، وارتكاب السيئات، حتى لا يضيع ثواب حجهم هباء منثورا، بعد أن تحملوا المشقة وعناء السفر وفراق الأهل والأحبة، وأنفقوا المال فى سبيل أداء الركن الخامس للدين.
ويقول الدكتور أحمد كريمة، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة الأزهر، إن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال فى الحديث الصحيح”الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة”، وقد قال أهل العلم إن علامة الحج المبرور أن يرجع الحاج وحاله أفضل مما كان عليه قبل سفره، وعلى ذلك فعلى الحاج أن يكون قدوة فى السلوك والعمل، ويبتعد عن المؤاخذات ويترفع عن المحظورات، حيث من العيب أن يرجع الحاج من رحلته كما ذهب. وطالب كل من أنعم الله عليه بنعمة الحج أو أى طاعة وشعيرة من شعائر الله بأن يقابل ذلك بالشكر لربه، والإنابة إليه، وليس الشكر محصورا فى الشكر اللساني، كما يظن بعض الناس، بل هو عام يشمل الشكر القلبي، بحيث يظل قلبك متعلقا بخالقك، مستشعرا نعمته عليك، ويشمل أيضا الشكر العملي، بحيث تكون بعيدا عن كل ما يغضبه عليك، قريبا من كل ما يحبه ويرضاه منك.
ميلاد جديد
وأكد أن الحج ميلاد جديد، وأول ما ينبغى أن يفتتح به هذا الميلاد هو توبة العبد لربه، وعزمه على إصلاحِ شأنه كله، قال تعالي”..وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ”، موضحا أن من الخطأ الكبير أن يظن الإنسان أن مواسم الطاعات فرصة للتخفف من الذنوب والسيئات، ثم إذا ذهبت هذه المواسم وقع بعدها فى المخالفات، وتنتهى فترة إقباله على الله تعالى بانتهاء تلك المواسم والأيام المباركة، بل انه يجب على المسلم أن يجعل مواسم الخير فى العبادة محطة تحول كامل لواقع حياته، من حياة الغفلة والإعراض عن الله، إلى حياة الاستقامة والإقبال على الله، مشيرا إلى انه يجب علينا ان نتذكر عظيم نعمة الله علينا، حيث إنه مع كثرة ذنوبنا وعظيم خطايانا وزللنا، يكرمنا الرحيم الرحمن بالوقوف بين يديه، وأن نستغفره ونستهديه؛ يكرمنا بأن يسر لنا الحج ليغفر لنا ذنوبنا وخطايانا؛ فما أكرمه من إله واحد أحد، وما أعظمه من رب غفور رحيم تنزه عن الصاحبة والولد. وأكد أن من إغواء الشيطان وخداع النفوس الأمارة بالسوء أن يعود كثير من الناس بعد الحج إلى سالف ذنوبه ومعاصيه، وربنا سبحانه ينادينا بنداء الإيمان أن نستقيم على شرعه، ونستجيب له ولرسوله، ونتقيه حق تقاته، ونعبده حق عبادته فى حياتنا إلى مماتنا، قال تعالي” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ”.
باعث إلى الخير
وفى سياق متصل، يقول الدكتور مختار مرزوق عبد الرحيم، عميد كلية أصول الدين بجامعة الأزهر بأسيوط السابق، إنه ينبغى أن يكون حجنا باعثا لنا إلى المزيد من الخيرات وفعل الصالحات، وحاجزا لنا عن الوقوع فى الآفات والمخالفات، مشيرا الى ان من علامات قبول العمل المداومة والاستمرار فى فعل الخيرات والتزام الطاعات، مشددا على ضرورة التزام التقوى والاستقامة بعد الحج، فإن الله تعالى ذكر بالتقوى فى سياق آيات الحج عند الكلام على الهدى الذى يتقرب به الحاج لربه.
وأشار إلى أن حصول التقوى من أعظم مقاصد الحج وفوائده؛ حيث قال سبحانه”لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ”، موضحا ان التقوى التى يتربى عليها الحاج فى حجه هى التى ينبغى أن يسير عليها فى حياته متعاملا بمقتضاها مع نواهى الله وأوامرِه، وكما أن الحج لا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال، فانه تربية وتهذيب للسلوك ليصبح ذلك خلق العبد فى كل حال، وليكون كما وصف النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث”لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلاَ اللَّعَّانِ وَلاَ الْفَاحِشِ وَلاَ الْبَذِيءِ”. وحذر من العودة إلى الأفعال والخلال المشينة، وعلينا بلزوم الأعمال الطيبة، والخلال الكريمة، فما أحسن الحسنة تتبعها الحسنة، وما أقبح الحسنة تتبعها السيئة؛ قال تعالي”وَلا تَكُونُوا كَالَّتِى نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا”.
وأوضح أن الاستقامة من أولى ما يوصى به المسلم بعد التقوي، كما أوصى بها النبى صلى الله عليه وسلم سفيانَ بن عبد الله رضى الله عنه حين قال: يا رسول الله، قل لى فى الإسلامِ قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك، قال”قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ فَاسْتَقِمْ”، ولما كان العبد مع الاستقامة معرضا للخطأ والتقصير، قال الله تعالي”فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ”، فعلى كل حاج ان يلتزم بمنهج الله تعالى فى كل تعاملاته، ولا يعود الى اقتراف الذنوب والمعاصي، التى خرج وتطهر منها بعد أدائه الركن الخامس للإسلام. فالمؤمن ينبغى أن يحمل دائماً فى قلبه هم القبول لعمله، ويتذكر فى كل حين، قول الحق فى الكتاب المبين”..إنما يتقبل الله من المتقين”، وهذا ليس فى الحج وحده، بل فى الحج وغيره، فكم فى الناس من يؤدى العمل والعبادة، ولا يلتفت إلى قضية القبول، وكأن عنده ضمانا من الله بالقبول، بينما يصف ربنا تبارك وتعالى حال عباده الصالحين فيقول”وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِى الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ”.
وأوضح انه إذا كان الحاج منذ أن يلبى وحتى ينقضى حجه وينتهي، فان كل أعمال حجه ومناسكه تعرفه بالله، وتذكره بحقوقه سبحانه، وأنه لا يستحق العبادة سواه، ولاتسلم النفس إلا إليه سبحانه؛ فكيف يهون على الحاج بعد ذلك أن يصرف حقا من حقوق الله من الدعاء والاستعانة بغيره ؟! وأى أثر للحج فيمن عاد بعد حجه مضيعا للصلاة، مانعا للزكاة، آكلا للربا، آخذا للرشوة، قاطعا للأرحام ؟ ومن لبى فى الحج للرحمن عليه أن يلبى له بالطاعة فى كل مكان وزمان؛ فإن التلبية معناها إجابة لك بعد إجابة، وطاعة لك بعد طاعة، ومن امتنع عن محظورات الإحرام فى أثناء حج بيت الله الحرام، فليعلم بأن هناك محظورات على الدوام، وطول الدهر والعام، فليحذر إتيانها والاقتراب منها، يقول الله تعالي: “تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا”.
التزام إسلامي
وفى سياق متصل يقول الدكتور عبد الفتاح إدريس أستاذ الفقه المقارن بجامعة الأزهر، إنه على المسلم العائد من أداء مناسك الحج أن يتصور أن صفحة ذنوبه صارت نقية, فليحرص على أن تظل كذلك, ولا يكون هذا بالأمانى أو الانخراط فى الأعمال المشبوهة التى يداوم عليها بعض من ضل سعيهم فى الحياة الدنيا, وإنما ينبغى أن يعمل على أن تظل صفحة سيئاته نقية, وأن يزيد من عمله الصالح, بحسبان أنه سبب رضوان الله تعالى على العبد, قال تعالي: « والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون «, وأن يجتهد قدر استطاعته أن لا يكون إلا فى طاعة خالقه ما تبقى له من عمره, وأن يعيد النظر فى سلوكه مع غيره, والنهج الذى كان يتبعه فى كسب عيشه, وتعامله مع الناس, ليفعل من ذلك ما فيه مرضاة الله سبحانه, ولا ينبغى أن يظن ظان أن بوسعه معصية الله تعالى ردحا من الزمن, ليذهب بعد لأداء الحج فتمحى عنه الذنوب والسيئات, ثم يعود بعد حجه إلى ما كان عليه من الضلال, إذ لا يعد الحج ماحيا للذنوب بمجرده, إلا فى حق من عقد العزم مع نفسه, وعاهد ربه على مداومة الطاعة بعد أداء المناسك, وجاهد نفسه لإثنائها عن ميلها لفعل السيئات, فمن فعل ذلك كان قمنا أن يغفر الله له, وأن تمحى ذنوبه ليعود من حجه كيوم ولدته أمه.
رابط دائم: