« أنا لو زهقت ما اقدرش أمشي.. أنا لو زهقت أدخل السجن»
كلمات كتبها الرائع وحيد حامد ،جاءت علي لسان بطل فيلم «المنسي» الفنان عادل إمام، في الدور الذي جسده، ليعبر عن أصحاب مهنة «منسية» ، لا يتذكرها أحد علي الإطلاق في السراء، بل تتجه لهم أصابع الاتهام والادانة، وتحفل صفحات الحوادث بأسمائهم - فقط- عند وقوع حادث قطار.
...........................................................
هو ملاحظ البلوك أو عامل التحويلة، أو «المحولجي» كما كان يطلق عليه قديما.. هو المايسترو المسؤول عن حركة القطارات، يسمح لهذا بالعبور ،أو يرغم ذاك علي التزام مكانه في المحطة، لحين التأكد من سلامة السكة.. هو من يرسل الإشارات لعامل المزلقان لإغلاقه، وأي خطأ أو سهو يعني -لا قدر الله - تصادم قطارين أو خروج قطار عن مساره، أو انقلابه.
في «الكشك الصغير» استضافنا عادل الصاوي- ملاحظ بلوك علي الدرجة الثالثة- ، وتدرج في المهنة منذ أن عمل بها في نهاية الثمانينات.
يتذكر عادل تلك الأيام بابتسامة عريضة: لم يكن لي ميل للتعليم، فوصلت للثانوية العامة ولم أكمل،وبالصدفة وقعت عيناي علي إعلان في إحدي الصحف لهيئة السكة الحديد، تطلب ملاحظي بلوك، وبالفعل تقدمت للوظيفة، ولم تكن لدي أي فكرة عن المهنة، لكنني تدربت علي يد ذوي الخبرة ،فبدأت في كوبري الليمون ثم السبتية، وبعدها قليوب، وأخيرا جئت هنا الي»دروة» التي تقع فى آخر مركز القناطر الخيرية، وقبل مركز»شطانوف»التابع للمنوفية.
فجأة يرن صوت جرس، فيهب عادل واقفا « كده القطر اتحرك من القناطر» فيقوم بمهاتفة عامل المزلقان ليغلقه، ويسجل ما حدث بالساعة والدقيقة، واستجابة العامل من عدمه، في دفتر كبير، يعتبره عادل بمثابة الصندوق الأسود، الذي يتم الرجوع إليه في حالة وقوع أي حادث.
ثم تأتي مرحلة العمل الشاق، إذ يبدأ في تهيئة الطريق للقطار القادم فيقوم بتحريك مجموعة من الأذرع الطويلة الموصلة بغرفة أسفل الكشك، ومن ثم بقضبان السكة الحديد.
تحريك تلك الأذرع بحاجة لقدرة عضلية كبيرة، وهذا هو الفرق بين البلوكات التي تعمل يدويا» ميكانيكا» وبين النظام الحديث «الكهربائي» الذي استبدل مجموعة من المفاتيح بالأذرع الحديدية، لكن حتي الآن يظل النظام اليدوي هو الغالب في معظم محطات السكة الحديد في مصر، وقد جرب عادل النظام الجديد، لكنه عاد إلي اليدوي رغم صعوبته ، ليكون قريبا من محل سكنه.
الشمس الآن أصبحت عمودية وانتصف النهار، ودرجة الحرارة تواصل ارتفاعها ، لكننا هنا في داخل الكشك الصغير والذي يصل عمره إلي 130 عاما، لا نشعر بأي ضيق أو ضجر، ويحكي لنا عادل أن هذا الكشك بناه الإنجليز أثناء قيامهم بإنشاء خطوط السكة الحديد في مصر، وكل ما يحويه المكان من أدوات تعود لهذا العهد، ويضحك قائلا» كل دي آثار» ، منها ما لايزال مستخدما ومنها ما توقف عن العمل.
17 قطارا «طالع- نازل» تمر علي عادل في ورديته التي تمتد إلي 12 ساعة، وإن كانت الورديات الليلية أفضل بالنسبة له، حيث تهدأ الحركة نسبيا، ومع ذلك «مفيش نوم» علي حد قوله، وبعد الوردية، يحصل علي راحة لمدة 24 ساعة ليعود لعمله من جديد. وهكذا..
«لا جرنال ولا تلفزيون ولا راديو» .. كلها ممنوعات يحظر وجودها داخل كشك الملاحظة، والسبب كما يقول عادل « حتي لا تلهي ملاحظ البلوك ولو لدقائق، فغياب التركيز أثناء تجهيز السكة وعمل التحويلات وفتح وغلق السيمافورات، قد يؤدي لكوارث، ولا تنتهي مهمتي قبل ان يتحرك القطار بسلام من محطتي، وأبلغ ملاحظ البلوك في المحطة التالية بأن يستعد، بأن اقوم بدق دقتين متتالييتن ثم دقة، ليعلم أن القطار غادر محطتي ، وفي طريقه إليه. كما اقوم أيضا بملاحظة ما يعرف ب»الفانوس» الذي يكون مثبتا في العربة الأخيرة من القطار، فإذا لم يكن موجودا ،فهذا يعني أن العربة الاخيرة قد انفصلت عن القطار أثناء سيره، وهنا لا بد أن أخبر ملاحظ البلوك في المحطة التالية، ليقوم بحجز القطار».
في السابق ، لم يكن المكان حول المحطة مكتظا بالسكان كما هو الحال الان، وهو ما يشكل ميزة وعيبا في الوقت ذاته، فلم يعد هناك إحساسا بالوحدة أو الوحشة، كما لم تعد هناك حاجة لجلب الطعام من المنزل، فمحلات الطعام والأكشاك متوفرة، « ممكن أبعت أجيب كشري، أو حتي «حتتين جبنة وحلاوة» - يقولها عادل برضا- ،لكن في المقابل أصبحت تلك الأعداد الغفيرة من السكان والمارة، تشكل أزمة في التأمين، وغلق المزلقان، فيقول:» كثيرون يقومون برفع البوابة بعد إغلاقها للمرور، وعندما يحذره عامل المزلقان بأنه قد يصدمه القطار يرد عليه باستخفاف» أنا عايز أموت.. مالكش دعوة» ، ومعظم الحوادث التي تقع تكون بسبب سلوكيات الناس المتهورة ، واستهتارهم بحياتهم، أما ما يخص عمله شخصيا فيحمد الله بأنه علي مدار عمله في دروة منذ 19 عاما، لم يقع أي حادث قطار، لكنه شهد بعضا منها عندما كان في مرحلة التدريب في قليوب.
عادل يغمره الإحساس بالرضا عن عمله ومهنته رغم مشقتها ومسؤوليتها ، ولا ينتظر من أحد جزاء ولا شكورا، يتمني فقط أن يسمع» كلمة حلوة»، تعينه علي استكمال مدة خدمته، حيث أمامه ترقيتان ليصبح «كبير ملاحظين» لكنه سيظل يقوم بالعمل نفسه حتي خروجه إلى المعاش، وإن كان له مساعد الآن . ويشير عادل إلي أن من يريد العمل في تلك المهنة الان يجب أن يجتاز دورات في معهد وردان بعد حصوله علي الدبلوم ليصبح «فني بلوك» وهو ما يعادل ما كان يسمي قديما» المحولجي « كمسمي وظيفي.
طلباته متواضعة تتمثل في توفير دورة مياه آدمية غير تلك الموجودة الان، بالإضافة إلي أمين شرطة، إذ لم يعد هناك أي عنصر تأمين بعد ثورة يناير، سواء للمحطة أو له شخصيا أثناء أداء عمله، ويتذكر قائلا:» في السنوات التي أعقبت الثورة كانت المخدرات تباع علنا علي رصيف المحطة، كما حدثت مشاجرات أفضت إلي ثلاث جرائم قتل، كما أن بعض الركاب يوجهون لي السباب والشتائم بسبب تأخر القطار أو مكوثه في المحطة لفترة من الوقت، وهو ما يكون بهدف التأكد من سلامة الطريق قبل السماح للقطار بالعبور، لكنهم لا يدركون ذلك.
بشكل عام يتحسر عادل علي مستوي أداء الخدمة في السكة الحديد بعد أن كان الناس يضبطون ساعاتهم علي مواعيد القطارات ، فضلا عن مستوي الصيانة ، أو حتي جودة الزي المخصص لهم، كما يعترف بأن ليس كل ملاجظي البلوك يعملون بنفس الأمانة والإخلاص، والا لما تقع كل تلك الحوادث؟!..
في النهاية ودعنا عادل لنتركه لعمله الذي كان ممتدا في هذا اليوم حتي السابعة مساء، بعد ان استقطعنا من وقته الكثير..تمنينا له السلامة واليقظة، ودعينا له براحة البال والصبر على الأذى، وأن يكفيه المولى شر الملل .. والغفلة!
رابط دائم: