رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رؤى نقدية
السمسار ــ 2

لم يكن «منتصر فهمى عبد السلام» بعيدا عن الطبقة العليا التى كان يتطلع - منذ أن كان طالبا فقيرا- إلى الالتحاق

بها. فقد كان والد صديقه الحميم «هشام» الذى كان يتولى معاونته فى دروس كلية التجارة هو الدكتور «فريد هيكل» الذى عين وزيرا فى أول حكومة تشكلت بعد قيام ثورة 23 يوليو 1952، ثم فضل الاستغناء عن المنصب لعدم تجاوبه مع فكرة الشرعية الثورية كبديل للشرعية الدستورية، فعاد إلى مكتبه الخاص والتدريس فى كلية الحقوق. وكان «منتصر فهمى عبد السلام» مقربا من الدكتور «فريد» بسبب علاقته الحميمة بابنه «هشام»، فسمح له بأن يطلع على مكتبته الخاصة، وكان يجلس مع «منتصر» وابنه للحوار بعد أن سمح لهما بمشاركته فى تدخين السيجار واحتساء القهوة بعد الوجبات فى غرفة مكتبه الأنيق. وكان الحديث يدور غالبا عن السياسة، وإلى أين يتجه البلد بعد أزمة مارس 1954، وتحديد إقامة محمد نجيب.

وسأل منتصر الدكتور فريد هيكل: «لو سمحتلى حضرتك.. أليست السياسة صراعا على السلطة؟ فرفع الدكتور فريد يده موضحا: «هكذا هى عند معظم الساسة، ولكن الضمير الإنسانى لا ينظر لها على هذا النحو... السلطة وسيلة لتحقيق التنمية والعدالة والديموقراطية لجميع فئات الشعب، فكيف تكون أداة لحاكم مستبد ومجموعة للسيطرة والاستحواذ واغتنام الغنائم؟». هذه الكلمات لم تدخل إلى عقل «منتصر» تماما لأن طبيعته الانتهازية جعلته يميل إلى عشق السلطة بوصفها وسيلة للنفوذ والقوة والسيطرة. وقد تعلم ذلك من كتاب قرأه فى مكتبة الدكتور «فريد» عن جوزيف فوشيه للمؤرخ النمساوى ستيفان زفايج، والذى كان نموذجا للانتهازية السياسية إلى أبعد حد، ومنه تعلم أن أصول الصعود فى مدارج الانتهازية تتكون من حزمة متكاملة: المعلومات + معرفة نقاط الضعف+ اختراق النفوذ والخزائن+ امتلاك الأسرار. ولذلك ترك فوشيه الثورة الفرنسية تحرق وتحترق، وانشغل بصناعة الملفات، فالملف قد يصبح دليل إدانة صاحبه، أو يكون له ثمن قد يشتريه به صاحبه لينقذ رقبته. ولاحترافه هذه الصناعة أصبح وزيرا لداخلية الثورة، وأسس أول مدرسة منظمة لكادر البوليس السرى، وتاجر فى الملفات مكونا ثروة طائلة، ووصل إلى درجة من البراعة جعلته وزيرا للداخلية أكثر من مرة، سواء فى عهد الثورة أو حتى فى عهد الإمبراطورية.

وقد بلغ من تأثير هذا الكتاب على «منتصر فهمى» أن جعل فوشيه مثله الأعلى فى الانتهازية والوصولية، ومن ثم البحث عن كل ما يشعره بالتميز حتى على أبناء الطبقة المترفة التى كان يحاول التشبه بها والتقرب إليها، ولم يكتف بما تعلمه من كتاب فوشيه، وإنما أضاف إليه ما تعلمه من السماسرة. وقواعد العمل التى يكون فيها: «الكلام بحساب... تسمع اللى قدامك للنهاية قبل ما تتكلم... تطلب بكل لطف وكياسة، ولازم يكون جلدك تخين طول الوقت». ومن «روبرتو» سمسار الأوراق المالية يتعلم تلقى العمولات بوصفها حقا له، وكان ذلك أولى خطواته فى طريقه الطويل الذى جعله شخصية اجتماعية مرحة ومنفتحة، لا يعرف عنها أى نشاط سياسى، ولا يشترك فى ندوات أو اجتماعات أو أى مظاهرة جامعية، وهى كلها صفات جعلته مقربا من عميل المخابرات «درويش غانم» الذى كان واسطته الأولى فى الدخول إلى المخابرات بحكم ما رآه من صفات تجعله يصلح لأن يكون واحدا من رجالها، مؤهلاته أنه شخصية اجتماعية، يدخل القلوب بسهولة، يستوعب المشاهد والأرقام والمعلومات بسرعة عجيبة.. عقله شغال طوال الوقت، فضلا عن كونه شخصية اجتماعية يستمتع بالخمور لكنه صاحب إرادة ولا يسكر، متدين بالمعنى المصرى الحضرى الذى يجمع أبناء الطبقة الوسطى من أصحاب الفكر الليبرالى.

ومنذ البداية يتحرك «منتصر فهمى عبد السلام» حالما بالسلطة، مؤمنا أن السياسة صراع على السلطة، وأن الأذكياء وحدهم هم الذين يحصلون عليها. ولذلك كان يكتفى من العلم بما يؤهله لأن يمضى فى دوره الاجتماعى، مركزا ذهنه فى العمل، نائيا عن الغواية التى تترصده كلما اتسعت صلاته الاجتماعية. هكذا ينجح فى تكوين شبكة تجارية فى المغرب تتبع المخابرات، وينجح فى الصفقات التى قام بها بوجه بشوش ولسان ذرب وروح ديناميكية مرنة تيسر كل ما هو صعب. ويعود من كازابلانكا ليرحل من القاهرة مرة أخرى إلى العراق، مبعوثا من جهاز المخابرات ليكون مسئولا عن فرع جديد للشركة تحت إشراف اللواء «حافظ فرهود» الذى سوف يعمل سفيرا فى بغداد ومشرفا على «منتصر» فى الوقت نفسه، وهناك ينفذ إلى زوج بنت رئيس الجمهورية وابنته اللذين يتعرف عليهما فى حفل عشاء أقامه السفير، وينجح بالفعل فى إقامة علاقات وثيقة بابنة رئيس الجمهورية وزوجها الذى أتاح له منتصر فرص الاغتناء السريع دون أن ينسى نفسه. ولكن يحدث انقلاب فى العراق فيعود إلى القاهرة ليبقى فيها حتى العام 67 الذى حدثت فيه هزيمة 67 التى تقلب الأمور رأسا على عقب، ويتولى اللواء «حافظ فرهود» رئاسة جهاز المخابرات ويعين «منتصر» ضمن مكتبه، ويعهد إليه بملفين، الأول: التحضير لإنشاء ست شركات اقتصادية فى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية لأغراض متعددة، والملف الثانى: تجميع التقارير المختلفة عن إسرائيل. ويذهب إلى باريس بعد أن يقنع اللواء «فرهود» ونائبه بتولى صديقه «شوكت» رئاسة مجلس إدارة الشركة الجديدة. وكان هذا يعنى أنه وشوكت انتقلا من صديقين إلى حليفين، كما فعل مع صديقه القديم «درويش غانم». وقبل أن يرحل إلى باريس يقابل صديقته الفنانة الشهيرة ليحدثها عن أحلامه التى لا تخرج عن الثروة والنجاح وعن العز والوصول إلى القمة، وعن اقتناعه بأنه سيصل يوما إلى مراده. وبدأ يمارس حياة الثروة والعز اللذين حلم بهما إلى أن ينفتح باب الثروة الكبيرة التى تضعه على أول درجة فى سلم أصحاب المليارات، مع طلب حاكم إمارة فيحاء من رئيس الجمهورية انتداب اللواء فرهود للعمل مستشارا للشئون الأمنية. فقد ظهر النفط بكميات طيبة تبشر بخير وفير، وما زالت يد الإنجليز محسوسة فى شئون المنطقة، ولكن الأمير يرغب فى بناء جهاز أمنى بعيد عن عيونهم، ويكون بأيد مصرية ليوازن أيضا نفوذ جهاز مخابرات شاه إيران، ويوافق الرئيس على تكليف فرهود بالمهمة، ويعرض فرهود بدوره على منتصر العمل معه ويقبل منتصر الذى شعر أن الحظ يفتح له بابا واسعا، وهناك فى الإمارة يصنع لنفسه شبكة من العلاقات التى تتيح له أن يحقق كل ما كان يحلم به. وكان أسلوبه الذى تعلمه من فوشيه ألا يكشف انتهازيته أو يبيع نفسه بسعر رخيص، أو يبدى نفسه فى صورة الخادم، فهذا كله ينتقص من قدره، ومن ثم فعليه أن يعلى من قدر نفسه أولا، وأن يرتقى بانتهازيته، فيقدم نفسه بالشكل الذى يبدو فيه مطلوبا وبإلحاح، كأنهم يحتاجون إليه، متذكرا عبارة روبرتو السمسار القديم الذى تعلم منه صنعة السمسرة: «السمسار الشاطر اللى يجعل البائع والمشترى يبحثون عنه قبل الصفقة ويتقابلون عنده ويظلون مشدودين إليه فى أثناء الصفقة».

هكذا يصل إلى ذروة السلطة والثروة فى الإمارة، ويعود منها مليارديرا. فقد هطلت الثروة عليه، وانفتحت حسابات منتصر فى بنك سويس فاينانس، ويدخل فى باب توريد السلاح ويتولى توريد أجهزة التنصت وفك الشفرات وكاميرات التصوير عالية الحساسية لجهاز المخابرات فى المملكة إلى أن توسط فى عدة صفقات لأسلحة صغيرة وقذائف صواريخ محمولة بواسطة أفراد، لكن يبرز له فجأة من يقطع عليه الطريق، ويحبط عملياته، فيعود إلى القاهرة، محتميا بسلطة اللواء «حافظ فرهود». ولكنه لا يعيد المحاولة فى المملكة إلا بعد أن يحمى ظهره، منتقلا إلى صفقات أكبر حجما تشمل هونات وآر.بى. جيه وصواريخ مولتكا وقطع غيار وذخائر ضخمة وأدوات اتصال معقدة وتجهيزات مستشفيات ميدانية، وكان بعض هذه الأسلحة سيذهب إلى الشيعة فى جنوب العراق، والباقى يتجه شمالا للأكراد، ويحصل على سمسرة تصل إلى ملايين عديدة من الدولارات، ولكن يفاجأ بتسرب الخبر إلى جميع الجرائد التى يمتلكها كبار التجار المرتبطين بأواصر قبلية مع العائلة المالكة، وتبدأ هذه الجرائد فى مهاجمته، وقبل أن يمسه أى ضرر طار بطائرة حربية مصرية على متنها نائب رئيس المخابرات المصرية وبصحبته صديقه درويش ليعودا به إلى القاهرة مهزوما، وإن لم يمسسه أى إجراء أو اتهام.

ويحقق منتصر فهمى حلمه الذى ملك عليه لبه، وهو أن ينتقل من أصحاب الملايين إلى أصحاب المليارات، ذلك الحلم الذى أثار خياله بشدة منذ أن قرأ كتابا عن أصحاب المليارات. ونمضى مع عهد السادات والمعونة التى قررت الولايات المتحدة أن تمنحها لمصر مكافأة لها على توقيع اتفاقية السلام. وفى واشنطن يتعرف على صديق جديد هو اللواء عبد العظيم الخولى الملحق العسكرى الذى سرعان ما جذبه إليه وأشركه معه فى صفقات السمسرة التى أغراه بمكاسبها الهائلة التى تصل إلى المليارات. وبالفعل يقوم بخدمات التوصيل للمعونة العسكرية الاقتصادية لمصر ويشترك معهما اللواء إيهاب المسئول عن الطيران، ويربح الثلاثة مليارات من عملية نقل المعونة العسكرية الاقتصادية. وبعد أن نجحت العملية حدث نفسه قائلا: «ما أروع الثراء والفخامة. اللعنة كل اللعنة على القناعة وضيق اليد والأفق المحدود»، وذلك بعد أن يودعه صديقه فرهار عباسى قائلا:«طريقك طويل فكن حذرا... فأعداؤك من اليوم سيتربصون بك».

وعندما يموت السادات ننتقل إلى المرحلة الأخيرة من مراحل السمسار التى تبدأ بعد اغتيال السادات وبداية عهد مبارك الذى وصل فيه نفوذ منتصر فهمى عبد السلام إلى أقصى درجة يمكن تخيلها، فيصبح سمسارا مزدوج الأدوار وينقلب من سمسار إلى شريك للجالس على قمة السلطة فى مصر.



(وللتحليل بقية).

لمزيد من مقالات جابر عصفور

رابط دائم: