رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

بريد الجمعة يكتبه احمد البرى
الطريق إلى جهنم!

أكتب إليك ولم يدر بخلدى أنى سأكون يوما ما إحدى بطلات بابك المفضل لديَ

والذى نأخذ من حكاياته الحقيقية العبر والعظات، فأنا سيدة تعديت سن الخمسين، وأعمل مديرة بشركة استثمارية، وقد بدأت قصتى عندما نشأت فى مدينة بالوجه البحرى فى بيت عامر بالعلم والإيمان، وترتيبى الوسطى بين إخوتى، وجميعهم ذكور فكنت قرة عين أبي، وترجع أصولنا إلى شبه جزيرة العرب ولكن استقر أجدادنا فى الشرقية وعشت فترة فى منزل جدى لأمى فشربت من حنانه وحنان جدتى وعطفهما الكثير.

وتميزت منذ صغرى بالتفوق وأنا طويلة ورشيقة ولى ملامح مميزة جعلتنى معروفة لدى أساتذتى بالجامعة لصغر عددنا فى القسم الذى التحقت به، وتقدم لخطبتى الكثيرون من بلدتى فى أثناء تعليمى وكانت وجهة نظر أبى أنه لن يظفر بى إلا من يستطيع أن يوفر لى «أرقى عيشة»، وكان من طبيعته ألا يرضى بالحياة البسيطة، ولذلك تنقل بين البلدان العربية موجها للغة العربية وكان يأتى فى الإجازة الصيفية فقط، وصار على أمى تدبير أمورنا، وكنا نعمل له حسابا فى غيابه أكثر من وجوده. ولما انتهيت من دراستى الجامعية كان أبى وقتها معارا لدولة عربية ووجه الدعوة إليّ لزيارته فسافرت إليه وكان شقيق لى قد سبقنى إليه، وهناك التقيت بأحد أساتذتى فى الجامعة حيث كان يعمل مستشارا للأمم المتحدة، ووفر لى عقد عمل يقترب راتبى فيه من راتب أبى الذى كان قد قارب سن الستين وقتها، أما أنا فكنت فى الثانية والعشرين من عمري.

واستأجر أبى لنا شقة فى عمارة فاخرة، ولم أكن أغادرها إلا للعمل بفرمان من أبي، وذات مرة رآنى شاب يعمل محاسبا فى الجهة التى أعمل بها فتقدم لخطبتى وعرفت أنه من محافظة تلتحم بمحافظتنا ويشاع عن أهلها الغنى والجمال، وكان شابا جميلا ووسيما وشديد البذخ ويكبرنى بسبع سنوات، وعرف كيف يقتنصنى بمعسول حديثه وهداياه الثمينة التى بهرنى بها، ونفذ كل طلبات أبى من المهر الغالى والشبكة الكبيرة والملابس الهندية بصناعة يدوية، ورأيت فى زواجى منه خلاصا من السجن الذى أقبع بين جدرانه، ثم نزلت مع أبى فى الإجازة الصيفية لأستعد للزواج وانتقلت من بيتنا بالشرقية الذى تقترب مساحته من ألفى متر وهو عبارة عن عمارة بحديقة تطل على شارعين إلى منزل زوجى وهو بيت أبيه الذى تقدر مساحته بحوالى مائة وعشرين مترا ويعيش أبوه وأمه وأخوته فى الدور الأرضي، وقد قسمت هذه المساحة إلى شقتين فى الدور الثانى فكان بيتى الذى سأقيم فيه حوالى ستين مترا تقريبا، واشترى حجرة نوم وتزوجنا وطوال الأجازة التى استمرت شهرين لم أر غيره فلم يسمح حتى لأمه بأن ترانى ولا أخواته وكنا نظل فى المنزل حتى الغروب ثم نذهب لعاصمة هذه المحافظة وهى قريبة من بلدتنا ونظل فى الكازينو على النيل حتى الساعات الأولى من الصباح ثم نعود إلى بيتنا فكانت أمه تستشيط نارا، وتظل تحكى لأولادها وجيرانها الذين يترددون عليها كيف أننى سلبت ابنها قلبه وعقله وهو الذى لم تؤثر فيه كل بنات محافظته، كما أنه ينفق كل أمواله عليّ دون وعي، وكنت لا أعى ما تقوله ولا أرد عليها فلم يكن لى اختلاط بأى أناس من قبل، ولذلك كانوا غريبين عليّ فلم اعتد عليهم لاختلافى الشديد عنهم وإلى جانب ذلك فإن كل اخوته حاصلون على تعليم متوسط، وهم أغنياء بالإرث ولا يجيدون أى شيء فى الحياة إلا الكلام والتسالى بمصائب البشر، ولم أكن أعرف أحدا ببلدتهم وحينما أجلس معهم أظل صامتة وكأنى فقدت الكلام.

واكتشفت عيوبا كثيرة فى زوجى منها عدم الإيمان فلم يكن يصلى وكان الصيام صعبا عليه جدا، وشديد الكذب وكان دائما يدعم كذبه بالحلف بالطلاق وبعد أن انتهت إجازة الزواج سبقنى إلى الدولة التى نعمل بها ولحقت به ولكن الدنيا تغيرت وأرتنا وجها آخر غير الذى نعرفه إذ استغنت الشركة التى نعمل بها عنا لتأخرنا فى الإجازة، وكنت قد حملت فى ابنتى الأولى وظللنا نعانى الأمرين حتى استطاع كل منا أن يحصل على عمل، ولكنه كان شديد الغيرة فبدلا من أن يذهب إلى عمله كان يقف أسفل المبنى الذى أعمل به ليراقبنى وكنت فى تلك الفترة حاملا وأعانى صعوبة فى الحمل، ثم وضعت ابنتى الأولى التى ملأت علينا الدنيا فرحا وبعدها بعشرة أشهر أنجبت ولدا كان ملاكا فى صورة طفل, فكل من يراه يباركه فقد جمع أحلى ما فى عائلتينا أنا وأبيه من الذكاء والتدين، وبعد مجيئه بأيام رحل والد زوجى عن الحياة فقررنا العودة إلى مصر من منطلق أن ميراثه من أبيه يكفينا لأن نعيش حياة ميسورة، ولكن الرياح جاءت بما لا تشتهى السفن، فحينما وصلنا إلى بلدته وجدنا أمه قد تقلدت منصب أبيه فى قيادة البيت وحرمت تقسيم التركة إلا بعد زواج بناتها الثلاث وابنها الأصغر، وبعد عامين ذقت فيهما الأمرين رحلت حماتي، وقد أوصت زوجة شقيق زوجى بأن تسوى لدى الدجالين أعمالا سحرية تضعها على باب منزلي، وكنت لا أعى انتباها لما تفعله وأتوكل على الله وأخرج وأدخل بلا اكتراث أو اهتمام بمثل هذه الأشياء، وبمرور الوقت أصبحت كالشبح من كثرة تفكيرى فى هذه الحياة وكنت أحس بأنى أحتضر طيلة وجودى بالمنزل وقد أنجبت بنتا أخرى فأصبح لى بنتان وولد فأين أذهب بهم وقد فقدت عملى وكل شيء.

وبعد عامين ماتت والدة زوجى وتنفست الصعداء وطالبت زوجى بالمطالبة بميراثه خاصة وأن أخوته جميعا تزوجوا وتم تقسيم الأرض ولكن لم يكن أمامه دائما سوى القسم بالطلاق لكى أصدقه على كذبه فى كل صغيرة وكبيرة

وبلغت ابنتى الكبرى ست سنوات، وابنى خمس سنوات والصغرى شهورا، وكان الولد هو البدر المنير لحياتي, ويكبر حبه فى قلبى يوما بعد يوم وزاد تعلقه بى فأصبح ابنى وحبيبى وروحى وعقلي، وصرنا متلازمين لا نفترق ولمست تعلقه بالقرآن وشغفه بحياة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام وصفاته التى لم يمل السؤال عنها يوميا ومنها «ماما هو سيدنا محمد شكله ايه»؟، وحدثنى قلبى بأن هناك شيئا ما سيحدث لابني, وكنت كلما تملكتنى الهواجس احتضنه بشدة خصوصا بعد أن لازمته تحركات لم أجد لها تفسيرا وقتها سوى أن موعد افتراقه عنى للأبد قد اقترب إذ أصبح كلما رأى أباه يقترب منى يبعده عنى فكرهه زوجي، وفى أحد أيام رمضان فى ذلك العام، حضر زوجى من العمل والشرر يتطاير من عينيه وسألنى لماذا لم أعد طعام الإفطار بعد؟ فقلت له: مازال الوقت مبكرا على المغرب لا تقلق فاتهمنى بأن حبى لابنى وتدليلى له هو سبب تأخرى فى طهو الطعام, وتطورت الأحداث سريعا وعلى الفور سحبنى خارج منزلى بهدوم البيت ورمى لى البنتين، أما الولد فقال لي: لن تريه للأبد، ووصلت إلى بيت أبى وأنا فى حال يرثى لها وكان عقلى شاردا مع إبنى ولا أفكر إلا فى وسيلة أحضره بها ليبقى معى بين أختيه، ومر يومان عليَ وأنا أحلم بكوابيس مزعجة، وفى صباح اليوم التالى ارتديت ملابس الخروج وأعددت نفسى للذهاب إلى بيت زوجى لإحضار ابنى، فتجمع حولى أخوتى وأبلغونى أن ابنى مات فى حادث سيارة وأن أبى وشقيقى شاركا فى تشييع جنازته، فسقطت على الأرض من هول الصدمة، وجاءنى كثيرا فى أحلامى وكأنه يعيش فى قصر فخم وحوله «الحور العين» اللاتى يقمن على شئونه ويمنعننى من احتضانه.

وهنا استرجع كل ما مضى بحذافيره مع ابنى فيجيئنى هاجس قوى بأننى كنت محرمة على زوجى إذ كان يبعدنى عنه، واسترجعت قسم زوجى بالطلاق على كل كبيرة وصغيرة، وأصبحت شبح امرأة لا أنفع لزوجى ولا لغيره حيث أصبت بانهيار عصبى أفقدنى القدرة على الوقوف على قدميّ أو تناول شيء، وكما حرمنى زوجى من ابنى فى لحظاته الأخيرة قررت حرمانه منى للأبد خاصة بعد أن علمت أنه قاضى الشركة التى تسببت سيارتها فى قتل ابنى وحصل على مبلغ كبير جدا أى أنه تقاضى ثمن تربيتى لابنى وهو الذى كان يكرهه ويضربه دائما! .

وفاتحت أبى فى الطلاق من زوجى والتنازل له عن كل شيء إلا ابنتيّ، وتم الطلاق فى هدوء، ولم تعد لنا صلة به فقد احتوت وثيقة الطلاق على التنازل عن جميع حقوقى ومنها نفقة البنتين والتنازل عن المؤخر وكل شيء فى هذا الشأن نظير الحصول على حريتى .

وصرت مريضة لا أملك شيئا, مالا ولا صحة، وفى ليلة كنت حزينة جدا وأنا نائمة ليلا والدموع تنساب من عينيّ، غفوت فرأيت فرسا عظيما ذا أجنحة تصل إلى عنان السماء، وعلى هذا الفرس فارس عظيم، وقد زجرنى الفرس بقدميه الأماميتين فى صدري، وقال لى الفارس وكأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انتهى من حزنك فحب الله خير من حزنك على ابنك، انتبهى إلى ابنتيك» كان الزجر قويا، حطم صدرى وكان صدى الصوت عاليا لا أنساه يملأ الأرض وعنان السماء ثم صعد الفرس والفارس معا فى لمح البصر إلى السماء، وأفقت فورا وتيقنت أن ما حدث هو رسالة من السماء لى لأفرح بابنتيَ اللتين كانتا نائمتين فى حضنى فى أجمل صورة, وأنتبه لتربيتهما وأجد العوض فيهما، وبالفعل كانت هناك شركة استثمارية جديدة على مقربة منا فطرقت بابها بحثا عن عمل، وكنت أجيد جميع الأعمال، فتم تعيينى على الفور مديرة بها وكنت وقتها لم اكمل سن الثلاثين، وتغيرت حياتى تماما، فتركت منزل أبى وأخذت شقة خاصة بى حتى أركز مع ابنتيَ ولا أنشغل بسواهما وكنت أذهب صباحا إلى عملى وأرسلهما واحدة للمدرسة والأخرى للحضانة وفى عودتى أحضر الطعام لهما ونظل ثلاثتنا طوال اليوم نذاكر ونلعب ونأكل معا حتى ننام إلى أن يهل علينا يوم جديد .

ومرت سنوات طوال وكما أغلقت باب بيتى عليَ أنا وابنتيَ أغلقت باب قلبى فلم يدق لأحد بعد أن حرمت على نفسى كل شيء حتى زيارة أقاربي، ولم يسأل أبوهما عنهما وانشغل بحياته وتزوج وأنجب أربع بنات، وتخرجت البنتان وألحقتهما بشركتين للعمل بهما،وجاءهما عرسان كثيرون واتصلت بأبيهما لمساعدتى فى زواجهما، فرد عليّ بأنه مريض وينفق على أربع بنات فى مدارس أجنبية من زوجته الحالية، وكذلك لم يحضر عقد القران بحجة المرض فأخذت قرضا من البنك بضمان

مرتبى فى زواج الأولى وما أن انتهيت من تسديده حتى حصلت على قرض آخر فى زواج الثانية. ومنذ عامين فوجئت ابنتى الكبرى باتصال من زوجة أبيها تقول لها إن أباها ستجرى عملية استئصال لإحدى قدميه وعليها الحضور فذهبت مسرعة إليه فى المستشفى وعرفت أن المرض الخبيث قد سرى فى أجزاء من جسده فأتلفها، وما أن ذهبت لمنزله بعد استقرار حالته حتى وجدته قد هدم بيته وأقام عمارة على النيل ووجدت بناته الأربع اللاتى لم يتجاوز عمر كبراهن عشرين سنه والصغرى أربعة عشر عاما يحملن أحدث الموبايلات، وتركب كل من البنتين الكبيرتين سيارة حديثة, ويتناولون جميعا طعاما جاهزا يوميا بآلاف الجنيهات من مطاعم العاصمة، ولما وجدت ابنتى هذا البذخ الذى يعيش فيه والدها وبناته من زوجته، قالت له: أين نحن يا أبى منك؟ ولماذا لم تسأل عنا طيلة ثلاثين عاما ولم تفكر حتى فى ودنا كأى أب , فرد عليها : لا خوف عليكما وأنتما فى كفالة أمكما، فقالت له: إن أمى صرفت كل ما تملك من أموال وضاع عمرها علينا فأين نفقتك علينا حينما كنا صغارا وأين نحن من ثروتك الآن؟، فقال لها بعد موتى سيكون الميراث لكن جميعا، ولما سمعت زوجته هذا الكلام قالت لابنتي: هذا بيتى باسمى لا ينازعنى فيه أحدا أما أملاك أبيك فقد باعها وكتبها باسم بناتى لكى يتعلمن مثلكما أنت وأختك، ووقع الكلام على ابنتى كالصاعقة وعادت من عند أبيها محسورة متعبة محطمة, وحاولت تهدئتها بأن قلت لها إن أباها لا يمكن أن يفعل ما قالته لها زوجته، وبعدها ظل أباها يتصل بها كل شهرين أو ثلاثة شهور تقريبا عند استئصال أجزاء أخرى من جسده ولكن هيهات له أن يتغير، وضقت بتصرفاته ووجدتنى ذات مرة أقول لها : قولى لأبيك أن ما يحدث له هو جزاء قاطع الأرحام لعله يرتدع ويعطيكما حقكما مثل بناته الأخريات، وخجلت ابنتى أن تقول لأبيها شيئا ولكنها لمحت له بذلك فلم تجد منه أى استجابة، وفى بداية هذا العام اتصلت بها زوجة ابيها لتخبرها بأنه مات إذا أرادت العزاء فذهبت ابنتى لتدفن أباها وفى اليوم التالى فوجئت بزوجته تطردها من المنزل وتقول لها: أنه منزلها، أما الأفدنة الثمانية التى كان يملكها وبعضها مبان والبعض الآخر أرض زراعية وهى ثروة تقدر بملايين الجنيهات فقد بيعت كلها وكتبت بأسماء بناتها ومسجلة ومحررة بشهادة الشهود كما ادّعت, ثم قالت لابنتي: لم يعد لكما أى شيء هنا، وكل همى أن أطمئن على مستقبل بناتى أما أنتما فقد كبرتما وتعلمتما وتزوجتما.

فهل هذا جزاء من احترمت مطلقها ولم تهنه فى المحاكم لتأخذ حقوق ابنتيها وفوضت أمرها لله وأنفقت كل ما تملك فى تعليمهما وتزويجهما؟ ..لقد ظلمنى وسلب حقى فى الدنيا، ولا أدرى كيف يقابل ربه وهو يعلم جليا أنه ظلم ابنتيه ظلما بينا فى حياته وبعد مماته ؟، ثم هل يليق بزوجة الأب أن تحرم بنات زوجها من ميراثهما الذى شرعه الله فى كتابه المعظم وتأكل أموال اليتامي؟، وما هو جزاؤها؟ .. وأخيرا أرجو من الآباء أن يتقوا الله فى معاملة أبنائهم من زوجاتهم السابقات ولا يقطعوا أرحامهم وأن يساووا بين أبنائهم قبل أن يأتى الأجل المحتوم ويقفون بين يدى الله عز وجل الذى سيحاسبهم على ما اقترفته أيديهم.

ولكاتبة هذه الرسالة أقول :

لو أدرك والد ابنتيك أنه لا مهرب ولا مفر من عذاب الله لما حرمهما من حنانه وعطفه، ولتواصل معهما حتى بعد أن تزوج بأخري، فالدين أقوى رادع للمرء من طمع نفسه، والانسان الذى يعرف ربه يتوقف فى محطات كثيرة من حياته ليراجع مواقفه، ويصحح أخطاْءه، ولقد كانت بدايتك معه مبشرة بحياة مستقرة، إذ إنك رأيت فيه فارس أحلامك بحبه لك، وامتثاله لطلبات أبيك المغالى فيها، ولم يعر مثل هذه المسائل أى اهتمام وقتها، وكان كل همه أن يظفر بك, ولكن الأطماع المادية عندما تسيطر على الانسان فإنها تفقده صوابه، وهذا بالضبط ماحدث منكما معا، فهو حاول تجاهل حديثك عن تقسيم الميراث بعد رحيل والدته، فضغطت عليه حتى ضاق صدره، وأخرجك بالقوة من بيته، ولو تريثت قليلا لسارت بكما الحياة فى هدوء لكنك أنت الأخرى لم تسلمى من النزعة المادية.

ولاشك أنه أخطأ كثيرا بحرمان ابنتيه منك من الميراث، وأظنه وفقا لما قاله لابنتك بأنه سوف يترك الأمور وفقا للشرع إلى ما بعد وفاته، لم يوزع ميراثه، ولم يكتب شيئا بأسماء بناته من زوجته التالية، ويمكن أن تحصل ابنتاك على ميراثهما الشرعى عن طريق إعلام الوراثة الذى يضم جميع المستحقين لتركة الأب، والخطأ الأكبر الذى ارتكبه فى حقهما هو أنه لم يساو بينهما وبين أخواتهما مما أثر على نفسيهما، وأوجد حالة جفاء بينهن، وتناسى بث روح التعاون والمحبة فى نفوسهن، وتكليفهن بمهام جماعية من شأنها إيجاد هذا التعاون، فالمساواة هى التى تخلق الألفة، وتوجد المحبة، وفى السنة النبوية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحدث أصحابه، فجاء صبى وانتهى إلى أبيه الذى أقعده على فخذه اليمنى، وبعد قليل جاءت أخته فمسح رأسها وأقعدها على الأرض، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أقعدها على فخذك الأخرى فحملها عليها، وعلق رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: «الآن عدلت»، فمن لا يعدل بين أبنائه بالمعروف والقسطاس المستقيم فقد نكب عن جادة الصواب، وغالط نفسه، ويستحق العقاب من الله عز وجل.

والتمييز بين الأبناء يسبب كراهيتهم بعضهم بعضا، وهو عامل مهم من عوامل الشعور بالنقص، وإذا لم ينتبه الآباء والأمهات إلى ذلك فسوف يخسرون أولادهم، وسوف يربى ذلك فى نفوسهم الجحود والنكران، وتبقى العدالة مطلبا لا يمكن الحياد عنه فى تربيتهم, وهى تكمن فى مراعاة الأبناء حسب احتياجات كل منهم وسنه ووضعه دون تفريق مع المساواة فى إظهار المشاعر، بما يتطلبه ذلك من حنكة ورحمة وتعاطف وتعاون بين الأبوين، لتوفير بيئة عادلة ينعم فيها الجميع بمحبة لا تفرق بين الاخوة.

ولا يجوز لأحد الأبوين أن يخص أحد أولادهما بشيء دون الآخرين، فعن النعمان بن بشير أن أمه بنت رواحة سألت أباه بعض المال لابنها منه، وقالت له: لا أرضى حتى تشهد رسول الله على ما وهبت لابني، فأخذ أبى بيدي، وأنا يومئذ غلام فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله: إن أم هذا بنت رواحة أعجبها أن أشهدك على الذى وهبت لابنها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: يابشير: ألك ولد سوى هذا؟.. قال نعم، فسأله رسول صلى الله عليه وسلم: أكلهم وهبت لهم مثل هذا؟ قال: لا، فقال صلى الله عليه وسلم: لا تشهدنى إذن، فإنى لا أشهد على جور».. متفق عليه.

إلى هذه الدرجة يجب أن تكون المساواة بين الأبناء، ويجب عدم منع أحد من الحصول على إرثه، وليحذر كل منا قوله تعالى «ومن يعص الله ورسوله، ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها، وله عذاب مهين»، فمن يمنع بعض أولاده من حقهم الشرعي، فهو آثم ومرتكب كبيرة من الكبائر، ولا تجوز الوصية لوارث لأن له حقا شرعيا محددا لقول رسول الله «إن الله قد أعطى كل ذى حق حقه فلا وصية لوارث، وهذه هى حدود الله التى علينا الالتزام بها لقوله تعالى «تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك الفوز العظيم، ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين» فالطريق إلى جهنم يبدأ بتعدى الحدود التى أمرنا الله بالالتزام بها.

ومن هنا فإن أرملة والد ابنتيك يجب أن تعلم أن استحواذها على الميراث دون وجه حق فيه غبن للبنتين وسوف تدور الأيام، وتتعذب بكل مليم حرام دخل بيتها، فلتسارع إلى رد حقوقهما، وأن تستغفر الله، وأن تمد جسور الصلة والمودة بين بناتها وابنتيك فهن أخوات من أب واحد، وأن تتذكر دائما قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سره أن يبسط له فى رزقه، وأن ينسأ له فى أثره فليصل رحمه» وكلمة ينسأ معناها: يؤخر له فى أجله، ويزاد له فى عمره، وهذا يعنى أن الله يبارك فى عمر الإنسان الواصل، ويهبه قوة فى الجسم، ورجاحة فى العقل، ومضاء فى العزيمة فتكون حياته حافلة بجلائل الأعمال، فمن منا لا يرغب فى أن ينال هذه الجائزة، كما آن زيادة العمر تعنى البركة فيه.

أما عن الظلم الذى وقع عليكن أنت وابنتيك من والدهما الراحل، فليقابله عفوكن عنه، والدعاء إلى الله أن ينصفكن بالحصول على حقوقكن، فيجوز أن تدعون بالانصاف منه، ولكن لا تقلن «الله لا يرحمه» فليكن حسابه عند ربه، وما كان لمثلك وقد اتصفت بالشفافية والقرب من الله، والتوكل عليه أن تصنع هذا الصنيع، فالحقيقة أن التجربة التى مررت بها من تعلق ابنك بك، وأخذ أبيه له عنوة وابعاده عنك هى تجربة دللت على عمق ايمانك بالله، وبأنه عز وجل انتشلك من المصير الذى كنت تنساقين إليه، حينما أغلقت على نفسك الأبواب، وعشت حياة صعبة وقاسية لا يفارق فيها ابنك خيالك، إلى أن هيأ الله لك «طاقة نورانية» كشفت لك الأمور على حقيقتها، وانتشلتك من براثن الانجراف وراء المجهول، وما أحلى وأجمل أن يتأسى المرء بما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يترسم خطاه، ويسير على نهجه، فهذا هو الطريق الذى ينجو به من شرور الدنيا وآثامها.

ولنعلم مكانة رسول الله، فقد جعل الله من يطيعه كطاعته هو عز وجل، فقال «من يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا»، ولا يتم إيمان المسلم حتى يحبه ويكون أحب إليه من والده وولده ونفسه والناس أجمعين» ويقول صلى الله عليه وسلم «كل أمتى يدخلون الجنة إلا من أبي، قالوا ومن يأبى يا رسول الله، قال: من أطاعنى دخل الجنة ومن عصانى فقد أبى».

فلتراجع أرملة والد ابنتيك موقفها، وعليها أن تعيد اليهما كل حقوقهما من ميراث أبيهما، وتلتزم بشرع الله، وأن تمد جسور التواصل بين جميع بناته، ولتعلم أن عقاب السماء آت لا محالة، وأن الله يقدر الأمور بميزان العدل، فلتحاول انتشال نفسها فكنوز الدنيا كلها لن تغنيها شيئا، ولن ينفعها الندم بعد فوات الأوان، ولعل بناتها يسارعن إلى احتواء اختيهن، فيجتمع شمل العائلة ويتعرف ابناؤهن فى المستقبل على بعضهم وتكون أواصر الرحمة والمحبة هى الخيط الذى يربطهن جميعا، ووقتها سوف يتأكدن من أن أموال الدنيا كلها لا تساوى لحظة صفاء يلتقين فيها، ويفضفضن إلى بعضهن، أما أنت فاخلعى رداء الماضى بكل ما فيه، من أخطاء وعدم حنكة فى تصريف الأمور، وتطلعى إلى الدنيا بعين جديدة غير هذه العين اليائسة، وإياك والدعاء على مطلقك فهو الآن بين يدى خالقه، وليعرف كل واحد حدود ما له وما عليه، فإن سلمت والدة بناته لابنتيك حقهما فليكن التسامح معها هو الأنفع والأجدي، أما إذا ركبت دماغها وأصرت على أكل حقهما، فإنه ليس أمامهما سوى اللجوء إلى القضاء الذى سيفصل فى هذه المسألة وفقا لما هو متاح من أوراق ومستندات، وسوف يعيد لهما حقهما الذى أقر به أبوهما قبل رحيله، اسأل الله الهداية للجميع، وهو وحده المستعان.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق