رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
> سيتحدث كثيرون عن بشاشة سعيد عيسى التى كان يقابل بها الجميع، وعن مجاملاته الدائمة، وعن تهذبه الأصيل وحضوره اللطيف حتى فى صمته وهو يعمل أو وهو ينصت لحوارات الأصدقاء والزملاء، وعن إخلاصه فى عمله، مهما كان التكليف، وعن نكرانه لذاته حتى آخر يوم له فى الدسك، يُجمِّل كتابات بعض زملائه الناشئين وقد يُعيد كتابتها كاملة، ويضع عليها أسماءهم، ثم يشاهِد ما ينالونه من استحسان يستحقه هو، ولكنه يبدو قانعاً بابتسامته التى لم تفارقه. عرفتُه عام 1973 فى معهد الإعلام جامعة القاهرة، وبقى مظهره حتى آخر لقاء وكأنه لم يتغير، حتى بعد أن شاب الشعر وزاد الوزن، ولكن التمعن يكشف أن نظرته المحدِّقة التى كان ملؤها الدهشة اعتورها تغيير. كنا مجموعة شباب نحلم، بحُكم جموح السن، بالمشاركة فى تغيير العالم، مع ثقة غير مُبرَّرة بأن الثمار دانية وأننا سنجنيها بأنفسنا. وكان هو من وقود انطلاق الخيال بحسبة أننا مجموعة مميزة ندأب على تحصيل العلم والثقافة، ونحب مصر، التى كان يدافع عنها بحماس دفاعاً قائماً على تجريد لا يتوقف أمام مصطلحات الوطن والشعب والأمة والجماهير، ولا معنى الدولة ولا مبناها، ولا طبيعة الحكم ولا أحوال الشعب وطبقاته وفئاته. كان يحب مصر حباً خالصاً لا يقبل فيه تهاوناً ولا حتى مناقشة. وقد خسر البعض إلى الأبد لأنهم أبدوا فى كلامهم ما اعتبره إساءة لا تُغتفر فى حق مصر. كان يقول بمنتهى الثقة والاطمئنان إن مصر أفضل بلد فى العالم. ولا يعطى أسباباً ولا يتوقع مجادلة، وكأنه يذكر قوانين نيوتن. وعرفت أن العلاقة بمصر فى صميم تكوينه النفسى والعائلى، فقد كان يحكى بفخر عن شقيقه الشهيد عبد المنعم المفقود فى هزيمة 67، والذى قال للعائلة ليلة ذهابه إلى الجبهة ما حفظه هو وزملاؤه من قادتهم بأنهم سوف يعودون بالنصر خلال أيام قليلة. ولم يبق من الشهيد سوى صورة تُعامَل بإعزاز شديد متصدرة الصالون. قلت له مرة مداعباً من وحى أغنية للشيخ أمام: «لابد أن تحدد موقفك: مصر العشة والا القصر؟». فاتسعت الدهشة فى عينيه، ولم يردّ! ولم يكن غريباً عليه أحياناً أن يكون الصمت ردّه على السؤال. وبرغم شبابية التفكير والنزوع الحماسى إلا أنه ظلّ هكذا حتى ما بعد الستين! بعد الدراسة وانتهاء الخدمة العسكرية أواخر السبعينيات، ارتحل معظم الأصدقاء إلى الخارج، والقليل منهم وجدوا عملاً فى مصر، وكان هو فى زمرة الأسوأ حظاً، وعجز عن أن يستوعب كيف تخضع فرص العمل لغير اعتبار الكفاءة والجدية، كما أن عزّة نفسه منعته أن يطلب مساعدة من قريبه الفريق أبو غزالة، ولم يكن يحب أن يعرف بهذه القرابة إلا القليل. وبينما هو فى حالة الاحتياج الملح للعمل، وجد الفرصة فى إعلان تنطبق شروطه عليه تماماً، فذهب مملوءاً بالأمل، وهناك قابل شاباً ينافسه على الوظيفة، وفى دردشة الانتظار للمقابلة، شرح له الشاب ظروفه المتعسرة، فانسحب سعيد وترك له الفرصة! وعندما عاتبه البعض بعد ذلك على ما فعل، كان تبريره أن الشاب الآخر، الذى لا يعرفه، أكثر احتياجاً! وهى إحدى خصائصه: أن يتنازل عن حقه وعما هو أهل له ويتوارى دون صخب، إذا رأى أن هنالك تكالباً أو أن هناك من يحتاج. بعد التخرج بسنوات قليلة، أثبتت تجارب الحياة أن المجموعة التى كان ينتمى إليها ليست كما كان يظن، وأن فيهم من حارب بشراسة لنيل مكاسب شخصية تتعارض مع شعارات كان يتغنى بها أيام زمان! ولكنه أصرّ على أن يغمض عينيه عن الحقيقة البادية، وظل مهموماً بكيف نعود مرة أخرى إلى سابق العهد! ورفض بشدة الإذعان إلى أن الصحبة انفرطت وأنه قد قُضى الأمر، وأنها كان يجب أن تنفرط، لأنها كانت قائمة على أحلام، وأنه حتى إذا صدقت الأحلام والحالمون، فأن قسوة الحياة تجبر الكثيرين على أن يَكفّوا عن التحليق وأن يحطوا على الأرض! ولكن كيف له أن يقتنع وهو لا يزال محلقاً! حتى بعد أن اضطر إلى الهجرة إلى الخليج لنحو عقدين، عاد يبحث عن الصحاب، وحدث أنه كان يقابل أحدهم فيُصاب بخيبة أمل، حتى كثرت الخيبات، فبدأت الدهشة فى عينيه تتحول شيئاً فشيئاً إلى الحزن. وكان هذا ملمحه الجديد. ولم يُعبِّر عن حزنه وإنما تركه يفتّ فى روحه وفى صحته. الحزن، وعدم البوح، والزهد فى متع الحياة، والنفور من خوض المنافسات، والتفانى فى العمل بلا أفق لأية مكاسب، والاستمرار فى كل ذلك لسنوات، أوصله إلى أن يأخذ مسافة عن الدنيا، وأن يتشرنق على أسرته، زوجته هيام وابنته دينا وابنه أحمد، وأن يُبقى فقط على علاقات الأخوات والأخوة، والوفاء بالتزاماته الوظيفية بأقصى طاقته، مع الحرص على إبداء ذات الود مع جميع من يتعامل معهم. وأما فى أعماقه فقد انهارت أشياء، واستسلم تماماً إلى وجع فقدان الصداقة والأصدقاء وإلى استحالة التحقق الشخصى، وَسَحَقَه يقين اللاجدوى، ولم يبق له إلا الاستكانة للقصور الذاتى. وكان أقصى ما يقوله إنه ليس مضطراً لتبرير شئ لأحد، وإنه ليس على استعداد لرؤية من لا يحبهم ولا سماع ما لا يرضيه. وكان يتأمل بحب ابنته وابنه وهما يرتقيان فى الحياة. لم يُشرِك أحداً فى أنه يعانى من آلام صحية هائلة. ثم تبين فى أيامه الأخيرة، مع الضعف الشامل وفقدان القدرة على المواظبة على ما ألزم نفسه به، ومع إصرار هيام على أن تأخذه إلى الطبيب، أن الداء قد ضرب الطحال والكبد والمعدة والأمعاء، وجاءت الوفاة لتؤكد أن آلامه التى لم يُزعج بها أحداً كانت مميتة! عاش سعيد عيسى نسمة عابرة لطَّفت على من مرّت بهم. فلو كان لك صديق فيه بعضٌ من سعيد عيسى فلا تُفرِّط فيه، ولا تدع له اختيار أن ينزوى بعيداً عنك. [email protected]لمزيد من مقالات أحمد عبد التواب