رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

من يصانع من؟

صحيح أنه بعد تفكك الاتحاد السوفيتى عام 1991، وانتهاء الحرب الباردة، أعلن البيت الأبيض فى مايو عام 1997،

استراتيجية الأمن القومى الأمريكى فى القرن الجديد، التى تضمنت علاقاتها مع تركيا، حيث ورد فى بيان الرئيس الأمريكى "بيل كلينتون" ما نصه: " دأبت تركيا ديمقراطية، علمانية، مستقرة، وذات توجهات غربية على دعم جهود الولايات المتحدة الرامية إلى تعزيز عوامل الاستقرار فى البوسنة، وفى الدول الحديثة الاستقلال، وفى الشرق الأوسط، وكذلك إلى احتواء كل من إيران والعراق، وينطوى ارتباطها المستمر بالغرب وتأييدها لمجمل أهدافنا الاستراتيجية فى إحدى أكثر مناطق العالم حساسية على أهمية حاسمة. إننا مستمرون فى دعم تركيا الفعال والبناء فى كل من الناتو وأوروبا"، والصحيح كذلك أن الحرص على إعلان أهمية دور تركيا، تبدى أيضًا فى خطاب رئيس المجلس الأوروبى "آلان لا ماسور"، وهو يطرح رغبة الاتحاد الأوروبى فى إبرام اتفاقية وحدة جمركية مع تركيا، وجاء بحديثه: "على مفترق طرق القفقاس، والبلقان، والشرق الأوسط، وعند بوابة آسيا الوسطى تحتل تركيا موقعًا استراتيجيًا يمنحها دورًا بالغ الأهمية بوصفها عامل استقرار فى منطقة شديدة الاضطراب من جهة، وباعتبارها عنصر اعتدال وتوازن فى العديد من النزاعات الإقليمية المتفاعلة على أعتابها من جهة ثانية"، لكن الصحيح أيضًا أن تركيا لم تعرف داخليًا خريطة لنظام سياسي، تصبح إنجازاته مقدمة لإنجازات لاحقة؛ إذ بدءًا من عام 1945، حيث بدأ تطبيق النظام التعددى الحزبي، حتى عام 1975، تأسس 48 حزبًا سياسيًا، وذلك ما يعكس غياب التوافق بين النخبة، وتشظى توجهاتها؛ وإن كان قد تم إجهاض غالبية هذه الأحزاب؛ إذ وفقًا لأحكام قضائية تم إغلاق 14 حزبًا، كما ألغت السلطة العسكرية ثلاثة أحزاب، واستأثرت الأحكام العرفية بإنهاء 32 حزبًا، وفى انتخابات عام 1977 تصدر حزب الشعب الجمهورى وحزب العدالة المعركة الانتخابية، ولم يتمكن أى منهما من تشكيل حكومة واحدة دون دعم من الأحزاب الصغيرة، ولأن الجماهير تتضامن وفقًا لما تمتلكه من آمال ومفردات مشتركة لجماعة ما، تطلعًا إلى مستقبل منشود، تسعى أن يكتسب صفة الحقيقة؛ لذا تجلى الفعل الضاج لجماهير متعددة عبر الإضرابات، التى فى عام 1980 بلغ مجموعها 388 إضرابًا، شارك فيها 84832 مواطنًا، كما أصبح التأمين الحياتى للمواطن أكثر استعصاءً، إذ فى عام 1979 بلغ عدد القتلى السياسيين 1150 مواطنًا، وهو ما يعنى إطلاقية عنف اختلافهم. ترى إلى أى سياق اجتماعى تشير تلك الدلالات؟ لا ريب أن ذلك الواقع يعكس مدى افتقاد تلك القوى الاجتماعية التلاقى والتفاعل، استهدافًا إلى تحقيق التوافق؛ إذ يعد المجتمع التركى مجتمعًا متعدد الثقافات، بوصفه تكوينًا فسيفسائيًا، عرقيًا ومذهبيًا، حيث يضم أتراكا، وأكرادًا، وعربًا، وسنة، وعلويين، ومسيحيين، ويهودًا، وأيضًا أقليات أرمينية، ويونانية، ولا شك أن ثمة صيغًا ممكنة تقود إلى تحقيق توازنات تلك القوى الاجتماعية وتوافقاتها، دون انحسار للذات الفردية أو اضمحلالها، أو انتهاك لثقافتها أو القفز عليها؛ بل اعترافًا بأنها مسكونة بدءًا بحقها الطبيعي، وذلك ما يرشح ذلك الواقع لإمكانات التجدد الذى يؤمن للأعراق المتعددة مشاركة ديمقراطية، دون انكفاء على الذات، أو استعلاء على الآخر، لكن فى غياب تلك الصيغ التى تعزز تحقيق التلاقى والتوافق، تستمر الصراعات وتمتد بمكوناتها الثقافية دينيًا وعرقيًا، صحيح أن كمال أتاتورك (1881 – 1938 )، رسخ مركزية الهوية التركية، بوصفها قيمة إطلاقية مكتفية بذاتها، وفقًا لقوله المأثور: "سعيد هو ذاك الذى يصف نفسه بالتركي"، وكان ذلك محض تمويه لحقيقة الانقسامات العرقية فى تركيا، وكذلك إنكار لمنظومة حقوق تلك الأعراق، التى أسس على رفاتها أتاتورك الجمهورية التركية كدولة علمانية، بوصفها التكأة التى استند إليها فى عقلنة استبداده لتحقيق غايته، لكن الصحيح كذلك أنه ما إن تحرك الزمن بتركيا فى مساره نحو التسعينيات، حتى انجرف واقعها وشحن بقضايا العرقية، والإقليم، والقومية، وتجلت منطلقة من جديد قضية الدين والعلمانية؛ لذا كانت عملية 28 فبراير عام 1997، التى قام بها الجيش التركي، ووصفت بأنها "انقلاب ما بعد الحداثة"، ضد "حزب الرفاه" الحاكم، الذى أحرز انتصارًا كبيرًا للإسلام السياسى المنظم فى تركيا فى انتخابات 1994. قدم الجنرالات وجهات نظرهم حول العلمانية، والإسلام السياسي، إلى مجلس الأمن القومي، الذى أصدر قرارات استهدفت حماية الفكر العلمانى. عقب الانقلاب التركى فى 28 فبراير عام 1997 بثلاثة أشهر، أصدر البيت الأبيض فى مايو عام 1997، استراتيجية الأمن القومى الأمريكى فى القرن الجديد، التى أعلنت وسجلت تغنيها بانتصارات تركيا داخليًا وخارجيًا، بوصف تركيا حلقة الوصل الحاسمة فى ممر الطاقة من الشرق إلى الغرب، وتتبدى الرؤية الاستباقية الأمريكية فى دفع تركيا إلى المنطقة، لتصبح وسيلة عبورها وجسرها إلى الدول الإسلامية الست، التى استقلت فى آسيا الوسطى. . صحيح أن المصلحة الأمريكية تلاقت تمامًا فى تطابقها مع مصلحة تركيا، التى راحت تسعى إلى فرض نفسها كقوة إقليمية كبرى فى شبكة علاقات الدول المستقلة حديثًا الغنية بالطاقة، لكن الصحيح كذلك أن محدودية الوزن الاستراتيجى لتركيا تسقط تطلعاتها، فى غياب الدعم الأمريكي، خاصة أن روسيا أعلنت اعتبارها مناطق الاتحاد السوفيتى السابق، مناطق نفوذ بالنسبة إليها، وأنها ستتولى ملء ذلك الفراغ ذاتيًا، وهو ما يؤسس فيضًا من التنافس والصراع. إن الفحص الفكرى لمواقف تركيا، يكشف افتقارها إلى مخطط يدرك باقتدار ما يحدث؛ إذ أعلنت أن القرن الجديد هو "القرن التركي"، وأنها تمثل "الأخ الأكبر"، وأنها " الدولة النموذج" بالنسبة لوسط آسيا والقوقاز، وتورطت فى منح وقروض، وهبات، وطرحت وعودًا عجزت عن الوفاء بها؛ لذا فإنها بين عامى 2000 و2003 انسحبت طوعًا من المنطقة، بسبب أزماتها الداخلية والاقتصادية التى هزتها. وفى عام 2002 جاء "العثمانيون الجدد" إلى الحكم تحت اسم "حزب العدالة والتنمية"، وقضوا خمسة عشر عاما بقيادة أردوغان. وفى ظل الأحداث الأخيرة، ترى هل تعرضت العلاقات الأمريكية التركية للاختبارات، فتركت لدى الطرفين أسئلة معلقة حول نوايا كل منهما؟ أم أن كلا منهما يصانع الآخر؟ أم أنهما معًا يصانعان العالم؟

لمزيد من مقالات د. فوزى فهمى

رابط دائم: