تستحق ثورة الثالث والعشرين من يوليو عام 1952، فى ذكراها الرابعة والستين، التذكر والتذكرة، ليس فحسب لأنها تعتبر ثالثة الأحداث الكبرى فى تاريخ مصر الحديثة بعد تولى محمد على الكبير حكم مصر عام 1805 بتأييد شعبى، وثورة عام 1919 ضد الاحتلال البريطانى من أجل الجلاء والدستور، ولكن أيضا لأن هذه الثورة استعادت الدولة المصرية وقامت بعملية تمصيرها أى إدارة هذه الدولة من خلال أبناء مصر، وذلك بعد قرون من ضعف الدولة المصرية وغيابها وسيطرة العناصر الأجنبية عليها، من مماليك وعثمانيين، وغيرهم، ممن سبقهم ولحقهم، وتعود أهمية استعادة الدولة إلى حيويتها ومركزيتها فى المجتمع المصرى المرتبط أشد الارتباط بنهر النيل وشبكة القنوات والترع والقناطر والجسور التى تقوم بتوزيع مياهه فى أنحاء الوادى والدلتا.
وثورة الثالث والعشرين من يوليو، مثلها فى ذلك كمثل الأحداث الكبرى فى التاريخ أثارت ـ ولاتزال الخلاف فى الرؤى والمواقف والاستقطاب الحاد حول طبيعتها وأهدافها بين مؤيديها وهم الكثرة الغالبة من الشعب، وبين معارضيها وخصومها وهم قلة فى كل الأحوال.
وليس هنا المجال للاشتباك مع حجج المعارضين للثورة فهى معروفة ومكررة، ولكن يمكن ملاحظة أن أغلب حجج هؤلاء تتركز إما فى غياب الليبرالية والديموقراطية، أو فى ابتعاد دولة يوليو وثورتها عن الدين؛ وفى الحالتين تغيب عن الأولى روح العصر وطبيعة ثورة يوليو ذاتها، أما الثانية المتعلقة بالابتعاد عن الدين فهى تتجاهل طبيعة تدين المصريين وارتباط الدولة المصرية بالروح المدنية والتشريعات الحديثة.
ثورة يوليو 1952، من الظلم والإجحاف أن تقيم وفقا لمعايير تشكلت بعد قيامها بعشرات السنين تتعلق بالحرية وحقوق الإنسان، بل ينبغى النظر إليها بعين العصر والزمان والتاريخ الذى وقعت فيه، والذى تميز بالصراع بين الاشتراكية والرأسمالية والمعسكر الشرقى والمعسكر الغربى، وحلف الأطلنطى وحلف وارسو، واختارت الثورة على الصعيد الداخلى الاشتراكية العربية تمييزا وتميزا عن الاشتراكية السوفيتية، واختارت على الصعيد الدولى عدم الانحياز والحياد الإيجابى، وفضلا عن ذلك فإن الثورة انخرطت فى معارك التحرر الوطنى وربطت بين التحرر الوطنى، الداخلى والتحرر الوطنى فى بقية أنحاء العالم.
وبالإضافة إلى ذلك فإن الثورة فى برنامجها الداخلى لم تنفصل عن برنامج الحركة الوطنية المصرية بأطيافها المختلفة، وهى الحركة التى طالبت بتطبيق الإصلاح الزراعى والتمصير والعدالة الاجتماعية وإنهاء الاحتلال والجلاء، ومثل برنامجها القاسم المشترك الأعظم بين كل القوى السياسية الوطنية آنذاك، باستثناء الإخوان المسلمين الذين حاولوا فرض وصايتهم على الثورة وأيديولوجيتهم عليها، وانتهى الأمر بالصدام والصراع كما هو معروف.
استعادت ثورة يوليو الدولة المصرية واستعادت معها استقلال الإرادة الوطنية واستقلال القرار الوطنى، كما استعادت كرامة المواطن المصرى، فلأول مرة فى التاريخ يخاطب زعيم هذه الثورة ومفجرها المرحوم الخالد جمال عبدالناصر جماهير المصريين باعتبارهم «الإخوة المواطنون» تمكنت ثورة يوليو من إعادة رسم الخريطة الاجتماعية والطبقية فى مجتمع النصف فى المائة، من الملاك وكبار الرأسماليين وعلية القوم تحول عبر التمصير والتأميم والإصلاح الزراعى الأول والثانى وامتلاك الدولة وسائل الإنتاج الكبرى وتشكل القطاع العام، تحول هذا المجتمع إلى مجتمع المنتجين والعاملين والزراع وفتح التعليم المجانى الإلزامى الباب أمام ترقى أبناء البسطاء والكادحين وشرائح مختلفة من الطبقة الوسطى.
ذكرى ثورة 23 يوليو هى مناسبة لاستخلاص الدروس والعبر والنظر إلى المستقبل، وهذا ما يبقى فى غالب الأحوال من كل التجارب التاريخية الكبرى، فالتاريخ لا يعيد نفسه وإن فعلها فلن يكون ذلك سوى مأساة فى المرة الأولى وملهاة فى المرة الثانية، فالظروف تتغير والمعطيات تتبدل والأولويات تتحول، وهذه سنة الحياة والكون، وهكذا فإن ما يبقى من ثورة يوليو تلك القيم التى حاولت ترسيخها فى الواقع المصرى، قيم المساواة والمواطنة واستقلال الإرادة والعدالة الاجتماعية، وهذه القيم هى رصيد أى تجربة تاريخية تترك بصماتها وتضع فارقا بين ما قبلها وما بعدها.
ثورة يوليو حاضرة وبقوة فى المشهد الراهن بقيمها التى نجحت فى إرسائها وتلك التى أخفقت فى تحقيقها جزئياً، وهى فى هذا وذاك وفى الحالين تستعصى على النسيان والتهميش فى الذاكرة والوعى الجمعى للمصريين، وكما كانت هذه القيم حاضرة فى قلب ثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011 ، وإن فى صيغة غير أيديولوجية، فإنها حاضرة أيضا فى الموجة الثانية للثورة فى يونيو عام 2013.
فما يجمع بين ثورة 23 يوليو عام 1952 وما بين الموجة الثانية لثورة الخامس والعشرين من يناير عام 2011، فى الثلاثين من يونيو عام 2013، هو استرداد الدولة المصرية وانتشالها من أيدى العابثين، والحؤول دون تغيير طابعها المدنى الذى لا يخاصم الدين، وحظر العبث بمؤسساتها، تمهيداً لإسقاطها، والمفارقة التاريخية أنه فى الحالين أى ثورة يوليو والثلاثين من يونيو عام 2013 كان الإخوان الضالون والإرهابيون هما أعداء الأمس واليوم، فقد حاولوا فرض أجندتهم على ثورة يوليو ورفضت الثورة ذلك وقاومتهم، وفى الثلاثين من يونيو كانوا قد وضعوا أيديهم على الدولة واستأثروا بها وأقصوا جميع الأطراف حتى من تعاهد منها معهم على غير ذلك.
تمكنت ثورة 23 يوليو عام 1952 من اكتشاف طاقات المصريين على العمل والتعليم والعلم والإنتاج والصناعة، ووضعت مصر فى مرتبة اقتصادية تفوق بعض الدول التى ننظر إليها الآن بانبهار مثل كوريا الجنوبية، ونجحت الثورة فى تمكين مصر من بناء نموذج متكامل على صعيد السياسات الداخلية والخارجية، وهو النموذج الذى كان ملهما لدول عديدة أخرى ليس فحسب فى الدائرة العربية بل فى العالم الثالث، وكانت مصر بمثابة لسان حال هذه الدول فى المحافل الدولية والإعلامية رفعت صوتها ضد الاستعمار ومن أجل التحرر الوطنى ومبادئ السيادة والعدل والمساواة.
ولاتزال القيم التى مثلتها ثورة يوليو 1952 ورغم تغير الظروف والسياق قادرة على تشكيل مرجعية سياسية ومبدئية بشرط توافر النية على استثمارها والوعى بشروط المرحلة الراهنة.
لمزيد من مقالات د. عبد العليم محمد رابط دائم: