رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

كلمتين مع المدير

محمد سلماوى
فى الثامنة والنصف من صباح يوم الأربعاء ١٩ يناير ١٩٧٧ استيقظت على مربية الأولاد وهى تدق على باب غرفة نومى لتخبرنى بأن لى ضيفا فى الخارج يريد مقابلتى، ثم أضافت بشيء من التوجس: «بيقول إنه من المباحث».

وضعت علىّ «الروب دى شامبر» دون أن أرتدى ملابسى وخرجت من الغرفة، فلاحقتنى المربية العجوز وهى تقول بوجه ممتقع ان هناك أيضا ضابط بوليس يجلس مع الرجل فى الصالون.

كان الرجل فى الأربعينيات من عمره، طويل القامة، بدأ الشيب يزحف على شعر رأسه، وقد ارتدى معطفا بنى اللون، والى جانبه جلس ضابط شاب. نهض الرجل من مجلسه ففعل الضابط مثله، ثم سألنى: «أنت فلان؟» قلت: «نعم». قدم لى نفسه ذاكرا اسمه وقال إنه من مباحث أمن الدولة، ثم أضاف: «كنا عايزينك فى كلمتين مع المدير»، قلت: «وأين هو المدير؟»، قال: «هنا فى المعادى»، قلت له على الفور: «هل معك إذن من النيابة؟»، قال: «إذن بإيه؟»، قلت: «بالقبض علىّ»، قال: «لأ مافيش قبض ولا حاجة، هما دقيقتين وترجع تانى». قلت: «إذن تفضلا بالجلوس حالما أرتدى ملابسى».

كانت عينا الرجل تشبهان عينى والدى رحمه الله، وأحسست أنه صادق فيما يقول، فلم تكن هناك صعوبة فى الحصول على إذن من النيابة لو كان مطلوبا القبض على. ارتديت بسرعة الملابس التى كنت قد خلعتها ليلة أمس، وشددت على المربية ألا تخبر زوجتى بتلك الزيارة إذا اتصلت من عملها تسأل عن الأولاد، ثم كتبت ورقة صغيرة أخبرت زوجتى فيها بما حدث وقلت للمربية أن تعطيها لها اذا لم أكن قد رجعت الى البيت عند عودتها بعد الظهر. أخذت الورقة وقالت لى: «أنا مش مرتاحة للراجل إللى لابس البالطو ده». قلت لها: «أنت لا ترتاحين لأحد يا دادة»، وخرجت الى الصالون فوجدت الرجلان يتفقدان الغرفة. اتجه بنظره صوب المكتبة التى ظهرت فى الغرفة الأخرى، وسأل ان كان يمكنهما أن يلقيا نظرة على بقية غرف المنزل. قلت: «تفضلا».

لم أتابع عملية التفتيش التى عادة ما تكون جزءا من إجراءات القبض، وبدأ الشك يساورنى حول مهمة هذين الزائرين الصباحيين. لماذا يتم تفتيش منزلى إذا لم أكن سيقبض علىّ؟ هل هى عادة متأصلة فى رجال المباحث كلما دخلوا بيتا فتشوه؟! واذا كان مطلوبا القبض على، فلماذا لا يوجد إذن من النيابة؟.

انتهى رجل المباحث وزميله الضابط من عملية التفتيش دون أن يأخذا شيئا، وخرجت معهم من البيت، ففوجئت أن العمارة محاطة كلها برجال الشرطة وكأنهم جاءوا يقبضون على مجرم خطير يمكن أن يهرب منهم. قلت لرجل المباحث: «هل آتى بسيارتى؟»، فقال على الفور: «مافيش داعى»، وأشار لى أن أركب سيارة البوليس، ففعلت على مشهد من بواب العمارة الذى وقف مشدوها لا يعرف ماذا يقول، ودادة التى وقفت فى البالكون بالدور الثانى حاملة ابنى الصغير على كتفها وهى تكاد تقول لى: ألم أقل لك؟!

وصلت سيارة البوليس الى قسم الشرطة بالمعادى فنزلنا جميعا، وصعدت مع رجل المباحث الى الدور العلوى الذى يقع به مكتب مباحث أمن الدولة، فأدخلنى أحد المكاتب وقال لى أن انتظر، ثم تركنى حوالى ساعة دخل خلالها تباعا عدد من الضباط والفراشين ليأخذوا بعض الأوراق، أو ليتحدثوا فى التليفون، أو فقط لينظروا الىّ ويخرجون، وكان بعضهم يسألنى من أريد؟ أو لماذا جئت الى هنا؟ فقلت أننى فى انتظار مدير المباحث.

‎كانت البلاد فى حالة غليان بعد أن تم فجأة رفع ثمن عدد كبير من السلع والمواد الغذائية دون سابق إنذار، حيث صحا الناس من نومهم صباح يوم ١٨ يناير 1977 ليجدوا أسعار جميع السلع الأساسية مثل الخبز والزيت والسكر والأرز، وحتى السجائر، وقد ارتفعت كلها دون إعلان، فانفجر غضب الجماهير وخرجت الناس فى مظاهرات لم تشهد لها البلد مثيلا منذ زمن طويل، وقد أمضيت ذلك اليوم فى الجريدة التى أعمل بها أتابع الأخبار التى كانت ترد الينا حول تطورات الأحداث التى بدأت تتناقلها وكالات الأنباء، والتى تطورت سريعا واتسع مداها، ثم بدأت بعد ساعات الاعتداء على المبانى العامة وحرق وتخريب البعض منها، بما لم تشهده البلاد منذ حريق القاهرة فى ذات الشهر من عام ١٩٥٢.

فجأة رن جرس التليفون فى الغرفة فدخل أحد الضباط ليرد عليه. أعطانى ظهره وهو يدير حديثا سب ولعن فيه الحكومة، ثم قال: «دى مصيبة سودا، هو حد لاقى ياكل لما يرفعوا الأسعار»، وبعد أخذ وعطاء مع محدثه قال: «تصدق بالله؟ أنا لولا البدلة اللى أنا لابسها دى، لكنت اتظاهرت مع الناس»، ثم خرج من الغرفة بعد انتهاء المكالمة دون أن يعيرنى اهتماما.

بعد قليل دخل على رجل المباحث الذى زارنى بالبيت وطلب الى النزول معه الى الدور الأرضى حيث فوجئت به يقتادنى الى الحبس. كان له بابا حديديا يقف عليه شاويش ويظهر من وراء قضبانه بعض المحتجزين بداخله.

لم اتصور أن يدخلنى رجل المباحث الى هذا المكان. أمر الشاويش أن يفتح الباب ثم قال لى بلهجة آمرة: «أدخل»، فدخلت وأوصد الشاويش الباب خلفى.

حاولت أن أستفسر من رجل المباحث ما سبب وجودى هنا، أو المدة التى سأبقاها، أو أن أطلب السماح لى باستدعاء محامى، أو التحدث الى زوجتى، لكنه لم يكن هناك وقت مضى دون أن يلتفت الى.

فجأة وجدت نفسى وسط حوالى ٣٠ من المحتجزين داخل الحبس. كانت غرفة الحبس فى الواقع غرفتين، إحداهما بلا باب ومساحتها مترين فى أربعة أمتار، والأخرى لها باب خشبى ومساحتها حوالى مترين فى مترين ونصف، وبين الغرفتين رواق صغير لا يزيد عرضه على متر واحد وطوله حوالى ٣ أمتار ويؤدى فى نهايته الى دورة مياه مساحتها متر فى متر وتصل رائحتها النفاذة الى خارج القسم.

كان بعض المحتجزين مازالوا نائمين، وبعضهم الآخر صحوا لتوهم، وقد أفاقوا ليجدوننى وسطهم، أمضوا بعض الوقت فى ملاحظتى ومحاولة تبين ما ورائى الى أن جاءنى أحدهم، وقد تبين لى بعدها أنه كبيرهم الذى يأمر وينهى فيطيعه الجميع، وسألنى: «انت قتلت ولا سرقت؟»، نفيت التهمتين، فقال: «ماتخافش، أنا مش وكيل نيابة. أنا مجرم زيك، واحنا كلنا هنا زملا، الواد اللى هناك ده حرامى، والجدع اللى نايم قدامك زى القتيل ده متهمينه بقتل مراته. انت بقى عملت ايه؟» أكدت له أننى لم أفعل شيئا، فسألنى ما هى إذن تهمتى، قلت له: «ليتنى أعرف». صمت دون أن يبدو عليه أنه اقتنع بما قلت.

بدأت أتعرف على بقية النزلاء. كان كبيرهم هذا يدعى فاضل لكنهم كانوا جميعا ينادونه بالدكتور وهو كما علمت، تاجر مخدرات وحبوب هلوسة، وقال لى أحد المحتجزين فيما بعد أنه لا يتعامل الا مع علية القوم، وهم الذين يخرجونه فى كل مرة من الحبس.

وكان هناك محمد عبد النبى الذى كان فتوة السجن، لكنه يأتمر بأمر الدكتور. كان ضخم الجثة يصل طوله الى قرابة المترين، إذا لطم أحد المحتجزين على وجهه، كما حدث أمامى، أوقعه على الأرض على الفور، فقد حدث بعد وصولى بقليل أن ثارت مشاجرة فى غاية العنف أخرج فيها أحد المتشاجرين مطواة من بين ملابسه الداخلية وهم بطعن عامل بناء صعيدى لولا أن الدكتور صاح به فجأة قائلا أنه لو طعن بها النفادى (فقد كان هذا اسم الصعيدى) فسيطعن هو بها أيضا، ثم أومأ الى عبد النبى فتقدم منه ولطمه فأوقعه على الأرض ثم أخذ منه المطواة وأعطاها الى للدكتور الذى أخفاها بدوره فى ملابسه الداخلية.

جرى كل هذا فى غيبة أى رقابة من شاويش الحبس أو أى من الضباط، فقد كان القسم فى حالة غير عادية نظرا للأحداث التى كانت تجرى فى البلاد والتى لم نكن نعرف كل تفاصيلها داخل الحبس، لكنا كنا نرى انعكاساتها على العاملين بالقسم والذين كانوا جميعا فى حالة ارتباك، وكنا نشاهد خروج قطع السلاح من «السلاحليك» بسرعة غير عادية، ولمحت الشاويش الذى كان على باب الحبس وهو يمر أمامنا فناديت عليه، فقال لى: «ماحدش فاضيلكم دلوقت، الذخيرة وصلت ولازم نعمر السلاح كله»، فسألته: «هى المظاهرات وصلت المعادى ولا ايه؟»، قال: «لسه، لكن عندنا أوامر لما توصل نضرب فى المليان على طول. حضرة الضابط قال لهم نضرب ازاى واحنا ما عندناش ذخيرة؟ فبعتولنا ذخيرة عمرنا ما شوفنا زيها». ما كاد ينتهى من كلامه حتى صرخ فيه شخص لم أره، فذهب إليه مهرولا وتركنا.

عدت أفكر فيما أنا فيه. هل يمكن أن يكون حبسا احتياطيا من المنصوص عليه فى القانون، والذى لا تزيد مدته على ٢٤ ساعة قابلة للتجديد مرة واحدة؟ ربما كان هذا هو السبب فى أنه لم يكن هناك أمر من النيابة. فى هذه الحالة فلابد سأخرج بعد ٤٨ ساعة على الأكثر. لكن لماذا لجأت مباحث أمن الدولة للخديعة؟ لماذا لم يعطنى الضابط الفرصة كى آتى معى بما سأحتاجه فى هذا الحبس؟.

اقترب منى الدكتور الذى كان وجودى فى الحبس لازال يحيره، وسألنى: «ألا انت بتشتغل ايه يا أستاذ؟»، قلت: «صحفى»، فتهلل وجهه وكأنه أرخميدس وقد وجد النظرية التى حيرته طويلا، وكما صاح عالم الرياضيات اليونانى القديم «وجدتها!»، صاح الدكتور فى وجهى: «بس عرفت!» ثم نظر لبقية المحتجزين الذين كانوا يبحثون هم ايضا عن تفسير لوجودى فى الحبس، وقال لهم: «الأستاذ صحفى جاى يشوف أحوالنا عشان يكتب تحقيق صحفى»، وسرعان ما وجدت نفسى وقد تحولت من مسجون الى قاض أتلقى الشكاوى من الجميع حول الظلم الذى يتعرض له كل منهم على يد الحكومة، وأقبل محمد عبد النبى يقول لى: «يا بيه أنا بكرة يبقى لى تلاتين يوم بالضبط فى السجن، مع إنى ممسوك تحرى، ولغاية دلوقت التحريات ما خلصتش»، وأوضح الرجل المتهم بقتل زوجته: «اللى بيدخل هنا ما بيطلعش إلا بطلوع الروح»، لكنى أفهمتهم أننى ممسوك مثلهم تماما ولم آتى الى هنا بإرادتى.

كانت الساعة قد اقتربت من الثانية بعد الظهر، وبدأت أقلق من أن زوجتى بعد ساعة واحدة ستكون قد عادت من عملها ولن تجدنى، وستقرأ الورقة التى تركتها لها، يا ليتنى ما تركت لها تلك الورقة. لكنها على أى حال كانت ستعرف ما حدث، إن لم يكن من المربية فمن البواب. ماذا ستفعل المسكينة؟!

فجأة اقترب منى صوت يهمس فى أذنى: « ولا يهمك. يعنى حايعملوا فيك إيه؟». نظرت إليه فوجدته شابا فى مقتبل العمر لم أكن قد لاحظت وجوده. كان سمح الوجه يرتدى بنطلونا بنيا وقميص «كاروهات»، شعره قصير لكنه يتدلى على جبينه كالقُصة. ابتسمت دون أن أرد عليه، فماذا يعرف هذا الصبى عما يعتمل فى نفسى؟ ماذا يعرف عما يمكن أن يحدث لى؟ لكنه لم يكن ينتظر منى ردا، فقد استرسل مباشرة: «الأول كنا بنقعد مهمومين زيك كده، وتعبانين من اللى بيجرى لنا، لكن بعد كده بقينا نقول: طيب واحنا نخليهم يتعبونا كده ليه؟» ثم وضع يده على كتفى وقال: «ما احنا اللى بنخليهم يتعبونا أو ما يتعبوناش. يعنى أنا مثلا مش تعبان دلوقت فى أى حاجة... صحيح أنا زمان كنت استاهل السجن، أصلى كنت شقى حبيتين، وبعدين لما اتجوزت قلت مش حاوكل مراتى فلوس حرام فبطلت شقاوة، ومراتى ولدت من شهر، وطول وقت الشقاوة ما اتمسكتش أبدا، لكن من يوم ما اتهديت كل شوية يروحوا ماسكنى، مرة تحرى، ومرة اشتباه، ومرة تشابه فى الأسماء، ومرة ولا حاجة خالص».

سألته كم عمره؟ فقال: « ٢٢ سنة، وشغال مكوجى بقالى ست شهور، واسمى محمود»، ثم لاحظ أن سؤالى أخرجه مما كان يريد أن يقوله، فاستطرد: «تصدق بالله؟ الأول لما كانوا يمسكونى كنت باتقهر قوى. دول خادونى أول مرة بعد الدخلة بتلات أيام، لكن دلوقت بقيت أقول: وانت حاتخليهم يقهروك ليه؟ انت ماحدش يقهرك يا واد يا محمود... والله دلوقت ما بيهمنى حاجة، هم كام يوم وبرجع تانى شغلى. أهى أجازة غصب عن عين الأسطى إللى باشتغل عنده».

وشرحت لمحمود أننى لست مهموما على حالى بقدر ما أنا قلق على من هم فى الخارج، فزوجتى لا تعلم أننى هنا، وقد تركت لها رسالة ستقلقها، فتهلل وجهه وقال: «بس كده؟ انا مراتى زمانها جاية، ما هى بتجيلى كل يوم تجيبلى أكل أو أى حاجة تانية أكون محتاجها. بتجيب البنت على كتفها وتيجى. لما تيجى النهاردة نديلها العلوان (هكذا نطقها) أو رقم التليفون وهى تبلغهم فى البيت عندك إنهم يجولك هنا يجيبولك اللى انت عايزه، ولا كأن فيه حاجة أبدا».

وأحسست وكأن محمود قد حل ببساطة مشاكل الكون كله. وضعت يدى على كتفه وقلت بكل صدق: «محمود، لما أطلع حابقى أكوى هدومى عندك»، فرد تلقائيا: «بس انت إطلع الأول يا خى»، وانفجرنا نحن الإثنين فى الضحك.

لفت ضحكنا انتباه الدكتور فقال: «تعالى هنا يا واد يا محمود. انت سرحت بالراجل على فين كده؟ فرد محمود: «روحنا مشوار صغير لغاية العتبة كده وجينا يا معلمى» فرد الدكتور: «وهى العتبة بتضحك قوى كدة؟ ولا عملت له شوية أونطة عشان تهلبه؟» ولاحظ محمود أننى لم أفهم ما قاله الدكتور فشرح لى: «قصده يعنى إنى أخدتك كده حلوانة فى سلوانة وبأضحكك عشان من غير ما تدرى أهلبك... أسرقك يعنى». قلت: «إزاى؟» قال: «زى كِده!» ولوح لى فى يده بعشرة جنيهات أدركت أنه أخرجها من جيبى دون أن أشعر، كى يشرح لى عمليا ما يقصده الدكتور.

ضحك الدكتور وقال: «الواد ده أصله ابن جنية. ايده ما شاء الله مافيش زيها، وسايب رزقه ورايح يشتغل مكوجى ابن العبيطة»، ثم قال: «شوف يا أستاذ، انت تديله الفلوس اللى معاك كلها يشيلهالك معاه عشان هنا مافيش أمان، ولما تيجى خارج يديهالك. كده تضمن ان ماحدش ياخدها منك».

لم أعلق على اقتراحه الغريب. أهذه التمثيلية الغرض منها هو الوصول الى ما فى جيبى؟ لا أعرف. قال: «صدقنى ده عشان مصلحتك». أنه بالفعل لمصلحتى لأنى لم أكن على استعداد لأن يطير أحد أنفى بمطواة، أو يفقأ عينى، إذا ما رفضت تنفيذ ما قاله. أخرجت ما فى جيبى وأعطيته للدكتور بلا مقاومة، فقام بعد النقود بعناية ثم قال لمحمود أمام الجميع: «٢١٧ جنيه أهُم يا واد. تحرص عليهم وتديهم للأستاذ وهو خارج»، فقلت لنفسى راضيا: لا بأس لقد اشتريت أنفى بـ ٢١٧ جنيها.

فجأة انفتح باب السجن ودفع أحد الضباط برجله الى الداخل وأغلق الشاويش الباب وراءه. كان الرجل فى العقد الخامس من عمره يرتدى معطفا رماديا. أخذ يصيح: «يا حضرة الضابط!... يا حضرة الضابط!...» لكن أحدا لم يرد عليه.

مضت لحظات صمت قصيرة نظر خلالها الرجل حوله، ثم عاد يصرخ مرة أخرى دون جدوى، ثم تكررالمشهد الذى حدث عند دخولى فى الصباح فاقترب منه الدكتور يسأله عن تهمته، فاتضح أنه كان عائدا من عمله عندما وجد المظاهرات أمامه بالقرب من دار السلام، فقامت احدى عربات أمناء الشرطة بالقبض على من استطاعت أن تطولهم فكان هو من بينهم، وروى لنا الزائر الجديد أنه لا توجد الآن أية مواصلات فى القاهرة وهذا هو سبب سيره على الأقدام فى الشارع، وقال أنه كان معه جهاز كاست خاص بابنه وكان يحاول أن يبتعد عن زحام المظاهرات حفاظا على الجهاز، وكان «سيد كاست» كما سمى داخل الحبس هو الذى أخبرنا أنه تم فرض حظر التجول فى القاهرة والجيزة والاسكندرية والسويس والمنصورة لأول مرة منذ قيام الثورة عام ١٩٥٢، وأن هناك حالة طوارئ فى كل أقسام الشرطة، وشكى لنا سيد كاست من أنه كانت معه حقيبة ايصالات ومبالغ مالية خاصة بالشركة التى يعمل بها، وأنه فقدها أثناء القبض عليه، وأنه يخشى أن يتصوروا فى الشركة أنه هرب بالنقود.

وهنا ظهر فجأة أحد «الشاويشية» ليبلغنا أن الضابط يقول إنه لو سمع أى صياح داخل السجن فسينزل بنفسه ليعطى لكل جزاءه، وكنت أريد الاطمئنان على بيتى فسألت الشاويش بسرعة قبل أن يختفى ان كانت هناك مظاهرات فى المعادى، فقال: «ما هو ده اللى احنا خايفين منه، ألا لو وصلت المظاهرات هنا حايحرقوا القسم زى ما حرقوا قسم مصر الجديدة والحدايق والمنيل وامبابة، فسألت الشاويش ان كانت قد حدثت وفيات، فقال: « حضرة الضابط بلغوه إنهم ٢٩٠ لحد دلوقت».

كانت الساعة قد قاربت العاشرة مساء ومازال الشاويش لا يظهر على الباب الا لماما، وكانت الأحداث التى تجمعت لدينا من خلال روايات القادمين من الخارج قد بدأت تفسر لنا لماذا لم يكن يعيرنا أحد فى القسم اهتماما حتى إنه لم يقدم لنا أى طعام طوال اليوم، ولماذا لم تأت زوجة محمود فى ذلك اليوم لزيارته. وفكرت فى زوجتى ما عساها تفعل الآن وقد عرفت ما حدث لى، لكنها لا تستطيع الحراك بسبب حظر التجول؟

عدت أفكر فيما عسى يكون سبب القبض على؟ إننى ليس لى أى نشاط سياسى، فهل تكون مقالاتى الناقدة للنظام؟ لكن الدولة تتحدث ليل نهار عن الديمقراطية، فهل تقوم الديمقراطية بغير معارضة؟

بعد قليل أعلن الدكتور أنه قد حان وقت النوم فهب محمد عبد النبى من مكانه وأخذ يصفق بيديه وكأنه يهش فراخ قائلا: «بيتك، بيتك، بيتك»، ولم يتحرك النفادى من مكانه، فصفعه عبد النبى على قفاه قائلا: «جرى إيه يا صعيدى؟! عامللى تخين ولا إيه؟!»، ولم يكن النفادى ليقبل هذه الإهانة، فهجم على عبد النبى يريد ضربه، لكن الدكتور تدخل فورا فعنف عبد النبى على «حموريته» حتى يهدئ من غضب النفادى، وسرعان ما عاد الهدوء الى السجن فبدأ الدكتور وعبد النبى ومحمود يوزعون المحتجزين على أماكن النوم، وأفهمنى الدكتور بأن مكانى فى الغرفة الصغيرة ذات الباب الخشبى مع الثلاثة سالفى الذكر وسيد كاسيت. وقد علمت أن هذه الغرفة مخصصة للسيدات حيث يتم ايداعهن فيها وإغلاق الباب عليهن، وقال لى محمود: «إدعى بقى إن ما يمسكوش نسوان الليلة دى والا حنترمى فى الأوضة التانية مع الحوش دول».

وهدأ الجو قليلا بعد أن تم إغلاق باب الغرفة علينا، وجلسنا جميعا على الأرض، وشعرت فجأة بجوع شديد، وسألت الدكتور ماذا يقدمون لهم فى الحبس من طعام، فقال: «مافيش غير الجراية» (أى الخبز بلغة الميرى)، وأن على كل مسجون أن يدبر أمره بعد ذلك، وأكد لى أن الأكل عادة ما يكون متوفرا بكثرة داخل الحبس، لكن اليوم لم يأتهم شيء من الخارج بسبب الأحداث، وحظر التجول الذى تحدد موعده يوميا من الرابعة بعد الظهر وحتى السادسة من صباح اليوم التالى، ثم قال: «والله لو الشاويش هنا كنا بعتنا جبنالك كباب»، فشكرته وقلت له إننى نباتى لا أأكل الحيوانات. وبمجرد أن ذكر الكباب صاح عبد النبى: «ياه! ده أنا بقالى ٣ شهور ماكلتش كباب». فرد عليه الدكتور: « هو انت عمرك دقته يا ابن الجعانة!»، لكن عبد النبى أكد له أنه أكله أكثر من مرة، وأن أمه التى يقول الدكتور أنها جعانة هى التى كانت تأتى له به وقت كان فى سجن أبو زعبل. فقال له الدكتور: «طيب طلع المعلوم بقى وبلاش غلبة»، فأخرج عبد النبى لفافة صغيرة مغلفة بورق قزاز كانت مخبأة فى ملابسه، فقد كان يرتدى «بلوفر» نبيتى بأسفله ثانية مثل ثانية رجل البنطلون محاكة بالكامل وبها فتحة كأنها فتحة دكة السروال، ومن هذه الفتحة أخرج لفافته. أعطاه الدكتور علبة سجائر مارلبورو، فبدأ عبد النبى تفريغ كل سيجارة من التبغ الذى بها بعناية شديدة، وخلطه بمحتوى اللفافة ثم قام بتعبئة السجائر بالتبغ المخلوط فبدت وكأنها لم تفرغ قط.

كان عبد النبى طوال ذلك الوقت جالسا على الأرض خلف الباب وموصدا إياه بظهره الضخم، وسرعان ما بدأت السجائر تدور على الحضور الذين كان كل منهم يأخذ منها نفسا عميقا ويعطيها للجالس بجواره. ووسط سحب الدخان الخانق فى تلك الغرفة الضيقة سألنى «سيد كاسيت»* عن عملى وماذا أتى بى الى هنا، فأجبته عن الشق الأول من السؤال مؤكدا له أننى لا أعرف إجابة الشق الثانى، فقال: «طيب بما انك صحفى وبتفهم فى السياسة، مش كان مفروض الحكومة دى تستقيل؟» قلت إن الأزمة قد طالت النظام كله، وأن اتباع تعليمات البنك الدولى والتى فجرت الأزمة، هى سياسة النظام، وما الحكومة إلا أداة تنفيذية، فقال: «طيب ده عبد المنعم القيسونى، وزير الاقتصاد، هو بس اللى استقال، وممدوح سالم ما قبلش استقالته كمان! يبقى ده معناه إيه بقى؟» قلت أنه لا يعنى أى شيء لأن النظام كله قد أقيل شعبيا ولن يستطيع الاستمرار الا اذا أتى بمعجزة، فرد: «حايعمل إيه يعنى؟ حرب أكتوبر تانية؟».

كانت الساعة قد تعدت الحادية عشرة حين بدأ الجميع يتثائبون بفعل أحداث ذلك اليوم أو بفعل الدخان، فسألنى الدكتور: «انت مش حاتنام ولا إيه؟»، ودون أن أرد أحضر بعض ملابسه وفرشها على الأرض قائلا: «هى دى فرشتك»، وجاء سيد كاسيت بمعطفه الذى كان قد خلعه حين تم أغلاق باب الغرفة، وطواه فجعل منه وسادة وضعها لى على الفراش، وأعطانى محمود بطانية كانت قد أحضرتها له زوجته دون أن يطلبها، فشكرتهم جميعا وقلت لهم أننى غالبا لن يجيئنى نوم فى هذه الليلة، واذا نمت فسأنام كما ينامون جميعا، لكنهم أصروا، فاستلقيت فى المكان الذى حددوه لى دون أن أنام، وبعد قليل كانت الغرفة تضج بالشخير فى «كاكوفونية» موسيقية غريبة، ولم يبق أحد مستيقظا معى الا محمود المكوجى الذى ظل يبدى دهشته من القبض على، ويسألنى ان كنت حقيقة لم اتظاهر، وقال لى أنه لو لم يكن فى الحبس لكان تظاهر مع المتظاهرين، ثم أخذ يشرح لى ظروف معيشته الصعبة بعد أن «بطل شقاوة»، وأنه يعانى من صراع داخلى رهيب حتى يمنع نفسه من العودة للسرقة مرة أخرى، فربتت على كتفه دون أن اتكلم.

وبعد منتصف الليل بقليل أفقت على أحد الزملاء يهزنى قائلا أنه سمع أحدا ينادى باسمى فى الخارج، وأدركت أننى لابد غفوت للحظات دون أن أدرى، وخرجت بسرعة من الغرفة متوجها الى الباب الخارجى، بينما صحا كل من فى السجن ليتبينوا الأمر.

عند باب الحبس وجدت أحد الضباط فى مواجهتى. سألنى إن كان هذا اسمى؟ قلت: «نعم»، فأشار إلى أن أخرج، فأخذ المحتجزين يهنئونى بالخروج، وقال لى عبد النبى أن أتذكره ورفاقه بالزيارة، وطلب «سيد كاسيت» أن أتصل بالشركة فى الصباح لأخبرهم بما حدث له، وبمجرد أن خرجت أغلق الشاويش الباب خلفى وكدت أتصور بالفعل أنه كان حبسا إحتياطيا حسب نص القانون حين وجدت اثنين من المخبرين. يحملون فى أيديهم الكلبشات ويطلبون منى مد يدي، وحين فعلت قاموا على مشهد من جميع المحتجزين الذين تجمهروا وراء قضبان الباب، بتثبيتهما فى يدىّ وثبتوا الطرف الآخر من كل كلبش فى يد واحد من المخبرين.

سألت الضابط الى أين سيأخذوننى حتى اترك خبرا لذوىِّ إذا جاءوا يسألون عنى غدا، فقال: «لا أعرف»، فمشيت مع المخبرين المكلبشين معى حتى وصلنا الى باب القسم، وعندها سمعت صياح محمود والدكتور اللذين كان عبد النبى قد أيقذهما بمجرد أن وضعت فى يدى الكلبشات، فقلت للضابط أنهما ربما يريدان توديعى، فأخبرنى أنه ليس هناك وقت لمثل هذه المجاملات، ثم نظر خلفه وصاح فى المحتجزين: «مش عايز دوشة والا حاعملكم تكدير كلكم»، فرد عليه محمود بسرعة: «يا باشا الراجل له أمانة معايا حايحتاجها... إعمل معروف»، فسألنى الضابط: «لك حاجة عند الواد ده؟» قلت: «أيوه»، قال: «روح خدها بسرعة مافيش وقت»، فسحبت المخبرين المقيدين معى الى باب السجن حيث ودعنى الدكتور وقبلنى محمود وهو يدس فى يدى النقود التى تصورت أنه استولى عليها منى بصنعة لطافة، فلم اتمالك نفسى وفرت دمعة من عينى وأنا أعطيه جزءا منها وأقول له: «الفلوس دى عشان تبقوا تجيبوا بيها كباب»، فوجدت من خلفهما ذلك الحائط المسمى محمد عبد النبى يجهش بالبكاء كالأطفال، فتركتهم ومضيت مع رفيقىّ الاجباريين الى خارج القسم.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق