يحتاج الموقف في تركيا إلي كثير من التروي وكثير من الانتظار لما سوف تسفر عنه المواجهات الدائرة بين السلطة التنفيذية التي يسيطر عليها الرئيس رجب طيب أردوغان وبين فصائل معارضة عديدة يسميها الرجل «الكيان الموازي» للدولة سواء من أنصار أستاذه السابق فتح الله جولن أو من التيارات الليبرالية والعلمانية الرافضة لمنهج الاستحواذ علي السلطة وإخضاع كل مؤسسات الدولة لسيطرة حزب العدالة والتنمية الحاكم... وهو منهج تتفق فيه كل الحكومات التي خرجت من فكر تنظيم جماعة الإخوان المسلمين في مصر والتي رأينا تجاربها المريرة في العقد الأخير سواء في تركيا أو في عصر ما يسمي «الربيع العربي» في عدد من الدول العربية والتي أوصلت بعضهم إلي الحكم ولم يفلحوا في البقاء وتركوا خلفهم فوضي عارمة وفي دول لم يفلحوا في حكمها تآمروا علي بقائها ونشروا الخراب والدمار مثلما هو الحال في سوريا وليبيا واليمن.
واحدة من المرارات الكاشفة لتلك العلاقة الروحية بين أردوغان والإخوان هي طريقة تحدث الرجل عن رغبته الدفينة في إسقاط كل ما هو سلبي علي الأوضاع في مصر ولم ينس في ظل عمليات الاعتقال والفصل الجائر لعشرات الآلاف من أبناء الشعب التركي سواء في الجيش أو الشرطة أو القضاء ومؤسسات التعليم أن يتحدث عن مصر التي يزعم أنها لا تعرف الديمقراطية اليوم وعن سلطة يتهمها بقتل الآلاف بينما هو حمل وديع لم يفعل أي شيء ولم يسفك دماء أبناء جيش بلاده أو يشعل حربا ضروسا ضد الأكراد في جنوب شرق البلاد دون مبرر أو يذل الجنود ممن شاركوا في عملية الخروج ضده وتصويرهم عرايا في شوارع إسطنبول وأنقرة في مشهد أذهل العالم.
في الذاكرة الحديثة للشعوب لا يوجد بلد رأينا فيه مشهدا مماثلا وهو عار علي أي جيش وطني في أي مكان أو زمان، والأكثر بشاعة أنه يأتي من جانب سلطة تنفيذية منتخبة تخضع الكل لرغبتها من أجل أهداف أيديولوجية وفئوية لمن ينتمون لتيار الإسلام السياسي في بلد حكم العالم الإسلامي يوما تحت راية الخلافة إلا أن حكامه اليوم لا يريدون أن يعترفوا بأن الدول القومية لا تقبل اليوم بما قبلت الشعوب به في القرون السابقة.
يريد أردوغان أن يقنع العالم بأن الديمقراطية التى يقدمها اليوم هى النسخة الشرقية التى يتعين أن يتقبلها العالم على أنها النموذج الأمثل فى الشرق الأوسط والعالم العربى ويريد أن ينصب من نفسه سلطانا أو خليفة، وفى سعيه لتحقيق تلك الأمنية يدهس فى طريقه مؤسسات الدولة التركية ويخضع القضاء والشرطة والقوات المسلحة ويلقى بالتهم من خلال قوائم معدة سلفاً لاعتقال أو رفت خصومه السياسيين والمتعاطفين معهم ووصل بعدد المضارين من إجراءاته القمعية فى أيام قليلة إلى قرابة 50 ألف شخص!
مشاهد السحل والتعرية والقتل بلا رحمة تتفرد بها الحركات التى تدعى أنها تحمل وازعا دينيا وأخلاقيا. ومقارنة بما جرى فى سنة حكم الجماعة الإرهابية فى مصر، ستجد نسخة طبق الأصل من جريمة الاعتداء على المتظاهرين أمام قصر الاتحادية فى أواخر عام 2012 قد ظهرت فى شوارع المدن التركية بدعم من ميليشيات أمنية تحت رعاية حزب العدالة والتنمية أسوة بما فعلته جماعة الإخوان وحزب الحرية والعدالة أيام محمد مرسى الذى وعد ببقاء الجماعة فى حكم مصر خمسمائة عام ولا ننسى أيضا تهديدات رجل الجماعة القوى خيرت الشاطر لوزير الدفاع، فى ذلك الوقت عبد الفتاح السيسى بإغراق مصر بجماعات إرهابية.
كراهية الجيوش النظامية للدول هى عقيدة واضحة فى تيار الإسلام السياسي، خادم الإمبريالية العالمية فى الشرق الأوسط، وقد تجلت الكراهية فى التعامل مع الجيوش الوطنية فى مصر وسوريا وليبيا وتركيا. فقد نسى تيار أردوغان أن دولة الخلافة الإسلامية قد قامت يوما على أكتاف الجيش التركى الذى غزا مناطق واسعة فى الشرق والغرب. وتلك الكراهية تفسر السخط الشديد على الرئيس السيسى واحتضان إسطنبول الفارين من جماعة الإخوان الإرهابية ومنحهم أموالا طائلة من أجل التحريض على هدم الدولة والنظام فى مصر. فالجيوش الوطنية هى العقبة الكبرى فى طريق حلم الإسلاميين لبسط نفوذهم وتشكيل جيوش على طريقتهم مثل عصابات داعش التى تحالفت مع أردوغان وحاشيته فى السر فى عمليات تهريب النفط والسلع وتكوين ثروات طائلة بينما تتعاون فى العلن مع الولايات المتحدة فى إطار ما يسمى التحالف الدولى ضد داعش.
واحدة من المشكلات المعقدة فى الصدام الداخلى أن الدولة الموازية التى يتحدث عنها أردوغان كشفت عن تلك الصفقات المريبة واستغلال النفوذ من المحاسيب والأقارب من أجل الثراء والتمدد والسيطرة على كل مفاصل الدولة ثم تأتى الخطوة التالية وهى التمكين من إعلان دولة الصوت الواحدـ وهو ما بدأه بالفعل تحت ستار عملية تطهير الدولة التركية من الفاسدين والخونة!
لم يتعلم أردوغان من درس الحليف الإخوانى فى مصر أن الإفراط فى التعسف والقمع ومحاولات التمكين على حساب سلطة الدولة والتنوع السياسى فيها يجهز على كل ما يتحقق من مكاسب سياسية. ومن عجائب ما يجرى فى تركيا أن أردوغان وحزبه ليسوا هواة سياسة ولكنهم يحكمون لمدة تزيد على عقد كامل وحققوا شعبية كبيرة فى فترة من الفترات لكنهم فيما يبدو سقطوا فى غواية التمكين والانفراد بالحكم على حساب الديمقراطية والتعددية السياسية وهو ليس السقوط بمعنى الانحراف فى الممارسة ولكنه عودة إلى الجذور الحقيقية لتيار الإسلام السياسى التى لا ترى سوى مشروعها باعتباره الأكثر اكتمالا وشمولا دون غيره من التيارات السياسية والفكرية... وهذا هو منهج الإقصاء الذى غرقت فيه المنطقة العربية بعد إعادة تصدير تيارات الإسلام السياسى فى قوالب جديدة فى حقبة ما بعد ثورات الربيع العربى بدلا من أن نلتفت إلى بناء الدول الحديثة وتعويض ما فاتنا... إلا أن تلك التنظيمات المشبوهة كانت كفيلة بهدم دول وشن حروب منظمة على الجيوش الوطنية وإشاعة القتل والتدمير فى كل الاتجاهات.
رحلة طويلة بدأت فى أفغانستان وتستقر اليوم فى قلب الشوارع والمدن العربية بتواطؤ من أطراف عديدة بينما تتجمع أدلة كثيرة على دور الخليفة المزعوم فى دعم الميليشيات المسلحة (فى سوريا تحديداً)
وقد أسقط أردوغان بعد نهاية تجربة «الإسلام الجهادي» المتطرف - ما روجه الغرب باسم الإسلام المعتدل وهى تسمية خدمت العديد من الأهداف فى فترة الحرب الباردة ومنحت قداسة لكثير من السفاحين والقتلة فى العالمين العربى والإسلامي. وينضم إلى قائمة الاعتدال من تراهم العواصم الغربية يحققون مصالحها ويخرج منها من يخرج عن الخط المرسوم. واليوم تتحدث أصوات فى الغرب عن الديكتاتورية المنتخبة فى إشارة إلى تنامى خطر ما يقوم به أردوغان ضد المعارضين لسلطاته وبقائه فى الحكم.
سيناريوهات مستقبل الحكم فى تركيا مفتوحة على مصاريعها ولن تكون إجراءات أردوغان بمثابة فصل الختام أو بداية حقبة جديدة من الانفراد بالسلطة فى البلاد لأن الشواهد تقول إن هناك قوى سياسية واجتماعية حية فى المجتمع التركى ولا يمكن فى ظل المشهد الأوروبى والشرق أوسطى والعالمى أن يكسب رئيس الدولة التركية المعركة الدائرة بينه وبين خصومه لأن الشعوب تتقدم إلى الأمام عندما تعلى من قيم الانفتاح والشفافية ومواجهة الفساد.
فى اللقاءات العديدة للرئيس السيسى فى حفلات التخرج المتتالية للكليات البحرية والدفاع الجوى والجوية والحربية، والشرطة أيضا، يظهر قيمة الجيش المصرى ودوره المعجز فى النجاة بمصر من مصير مظلم وقد أظهرت الدفعات التى حضرنا حفلات تكريمها فى الأيام الأخيرة مستويات ومهارات قتالية رفيعة المستوى مما يجعلنا مطمئنين أن الغد يحمل الكثير من التفاؤل والعمل حتى لو كانت الرياح الوافدة من أنحاء المنطقة العربية لا تقدم جرعة أمل مثلما توقعنا ولكنها محملة بسموم وأحقاد وصراع على النفوذ الإقليمى لا تقدم ولا تؤخر ولكنها ترضى رغبات مجنونة لدى البعض.
إن نموذج الإسلام المعتدل الذى تم الترويج له فى منطقتنا على أنه أفضل سيناريو ممكن يسقط بأفعاله وليس بمؤامرات خارجية مثلما يحلو لأردوغان إلقاء التهم ولو فكرت مؤسساتنا الدينية وعلى رأسها الأزهر الشريف لوجدت أن تجديد الخطاب الدينى لن يجد وقتا أكثر ملاءمة مثل اليوم. وأن دعوة الرئيس السيسى لتجديد الخطاب الدينى جاءت فى وقتها حتى لا ننتظر أن يقدم لنا الغرب النموذج الثالث للإسلام بعد نهاية كل من تجربة الإسلام الجهادى ونموذج الإسلام المعتدل بإرهاب لاتزال تعانى دول المنطقة منه. وفى اعتقادى أن كلام وزير الخارجية الأمريكى جون كيرى عن دعم خطوات أردوغان ضد الانقلاب الفاشل يعنى أن البديل لنموذج «الإسلام المعتدل» غير جاهز لدى الولايات المتحدة .
ومن ثم فإن تجديد الخطاب الدينى يحتاج إلى جراءة فى الفعل ومصر ليست ضعيفة أو مستكينة ولنا فى 30 يونيو مثال وقدوة ويمكنها أن تقود دفة التجديد الدينى وتنقية الفكر الإسلامى من كثير من الشوائب العالقة التى أحالت حياتنا إلى جحيم من الأفكار المغلوطة والعبادة الشكلية.
الشرق الأوسط فى مرحلة تستلزم اليقظة والاستعداد الحقيقى لمواجهات فكرية وسياسية والأسابيع والشهور المقبلة كفيلة بإظهارخديعة التيارات الدينية المسيسة حتى لو طال الوقت قليلاً.
لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام رابط دائم: