رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

مرة أخرى.. مصر «دولة تنموية»

كنت قد كتبت مقالا في هذا المكان في ٣٠ يونيو ٢٠١٥ بعنوان «مصر دولة تنموية»، شرحت فيه المقومات الأساسية التي تمتلكها مصر بعد ثورة يونيو ٢٠١٣، والتي تؤهلها لمحاكاة التجارب الدولية في إطار ما عرف بنظرية «الدولة التنموية»، خاصة فيما يتعلق بوجود قيادة سياسية قوية لديها رؤية وإرادة لتنمية مصر، بجانب المناخ السياسي المواتي لتطبيق تلك النظرية كإطار لدفع عملية التنمية. وتشير خبرة العامين الأولين من الفترة الأولى للرئيس عبد الفتاح السيسي، والتي شهدت تدشين وافتتاح عدد قياسي من المشروعات القومية في مختلف المجالات، إلى ملاحظتين مهمتين.

الأولى، هي الدور المحوري الذي يلعبه رئيس الجمهورية نفسه في توفير المناخ المواتي لدفع هذه المشروعات بتكليفات مباشرة ومتابعة دقيقة منه، والوقوف على تنفيذها وفقا لجداول زمنية محددة ومعروفة مسبقا، الأمر الذي يشير إلى الدور المحوري للقيادة السياسية في وضع وتطبيق إستراتيجية التنمية.

الملاحظة الثانية، هي اعتماد إستراتيجية التنمية على القوات المسلحة ـ ممثلة في أذرعها الاقتصادية والهندسية ـ كرافعة أساسية في تنفيذ تلك الإستراتيجية، بدءا من مشروع قناة السويس الجديدة الذي تم تنفيذه في وقت قياسي، بالإضافة إلى قائمة المشروعات القومية الجارية. وقد تبع الاعتماد على القوات المسلحة ظهور بعض الانتقادات، منها أن هذا التوجه ينطوي على تأثيرات سلبية محتملة على فرص مشاركة القطاع الخاص في عملية التنمية، ومن ثم الإضرار بآليات السوق الطبيعية وقواعد المنافسة الاقتصادية، والإضرار بفرص نشر الثروة داخل المجتمع على المدى البعيد. ومنها أيضا حديث البعض عن تأثير هذا التوجه على الوظيفة الأساسية للمؤسسة العسكرية والمتمثلة في التركيز على عمليات التحديث العسكري وتعزيز القدرات الدفاعية للجيش. الواقع أن هذه الدعاوى لا تستند إلى قراءة للخبرات الدولية في هذا المجال، كما لا تستند إلى قراءات دقيقة لطبيعة المرحلة الراهنة في تطور البلاد والمشكلات التي تعترض انطلاق عملية التنمية. إذ تشير خبرة العديد من الدول الصناعية الجديدة، والاقتصادات الناشئة، إلى اضطلاع القوات المسلحة بدور مهم في تسريع عملية التنمية. وقد أخذ هذا الدور أشكالا ومستويات عدة، لم تقتصر على بناء الهوية الوطنية، أو تنفيذ المشروعات الضخمة، لكنها شملت في بعض الحالات القيام بأدوار تعد أدوارا تقليدية مباشرة للحكومات المدنية والجهاز الإداري للدولة. وعلى سبيل المثال، قام الجيش الكوري خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي بدور مهم في عملية التعليم، فضلا عن مشاركته المباشرة في تنفيذ مشروعات البنية الأساسية، وتوفيره الكوادر اللازمة لتنفيذ بعض تلك المشروعات (توفير أكثر من ٥٫٦ مليون جندي للعمل في مشروعات التنمية الاقتصادية والصناعية خلال عقد الستينيات). أضف إلى ذلك مساهمته الضخمة في مشروعات الإصلاح الزراعي، وبناء المستشفيات، وإعادة بناء الجزر.

وهكذا، فإن مشاركة القوات المسلحة في تدشين وتسريع عملية التنمية ليست بدعة، فهناك خبرات دولية عديدة في هذا المجال. بالإضافة إلى هذه الخبرات، هناك عدد من الاعتبارات التي ربما دفعت القيادة السياسية - في تقديري الخاص- إلى الاعتماد على المؤسسة العسكرية كرافعة أساسية في تطبيق إستراتيجية التنمية بعد يونيو ٢٠١٣. أول تلك الاعتبارات يتعلق بضعف وطبيعة القطاع الخاص في مصر ونخبة الأعمال. فرغم المساحة المهمة التي أفسحتها الدولة لهذا القطاع خلال العقود السابقة، إلا أن المحصلة النهائية لهذا التوجه، وما ارتبط به من حوافز عديدة للقطاع الخاص، لم تؤد إلى حدوث تحول جوهري في هيكل الاقتصاد الوطني؛ فقد ظلت نسبة قطاع الصناعة بشكل عام، والصناعة التحويلية بشكل خاص، إلى الناتج المحلي الإجمالي نسبة محدودة. وفي المقابل، مال القطاع الخاص إلى التركيز على الاستثمار في القطاعات الخدمية، والترفيهية والعقارية، والتجارة الداخلية المعتمدة على الاستيراد بالأساس، على نحو كرس وعمق من المشكلات الهيكلية للاقتصاد المصري.

وتعمقت التأثيرات السلبية لهذا التوجه لدى القطاع الخاص مع تزامنه بانسحاب تدريجي للدولة من قطاع الإنتاج والصناعة وسياسة تصفية القطاع العام. ومن ثم، لا يمكن الحديث عن تطور نخبة أعمال صناعية حقيقية في مصر يمكن الاعتماد عليها في تحقيق نقلة حقيقية في هيكل الاقتصاد المصري، أو تنفيذ سلسلة المشروعات القومية المخططة بالنظر إلى كونها سلعا عامة لا تحقق بطبيعتها عائدات مالية سريعة، وذلك طالما استمرت الثقافة والتوجهات ذاتها لدى نخبة قطاع الأعمال. وبالطبع لا يمكن الانتظار لحين تطور هذه النخبة، فمصر لا تمتلك هذا الترف الزمني بعد ضياع عقود كثيرة، وبعد أن سبقتنا دول كثيرة، بعضها بدأ تجربته التنموية بعد مصر بسنوات. وهناك اعتبار آخر لا يمكن إغفاله، وهو عبء البيروقراطية المصرية؛ إذ مازال الجهاز الإداري يمثل عبئا كبيرا على عملية التنمية في مصر، سواء فيما يتعلق بحجم هذا الجهاز، أو مستواه الفني، على نحو يصعب الاعتماد عليه في تطوير إستراتيجية التنمية أو تنفيذ هذه الإستراتيجية بالكفاءة وبالمعدلات الزمنية المطلوبة. ويكفي الإشارة هنا إلى أن عدد العاملين بالحكومة (الجهاز الإداري، والإدارة المحلية، والهيئات الخدمية والاقتصادية) بلغ ٥٫٤ مليون موظف في سنة ٢٠٠٣. ورغم وجود حاجة ماسة إلي ترشيد هذا الحجم، فقد ارتفع هذا العدد إلى ٥٫٦ مليون في سنة ٢٠١٠، ثم إلى ٥٫٩ مليون في سنة ٢٠١٥ (بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء)، استحوذوا على ٢٤٪ من إجمالي الإنفاق العام خلال العام المالي ٢٠١٠/ ٢٠١١ في شكل أجور ومرتبات ارتفعت إلى ٢٧٪ خلال العام المالي ٢٠١٤/ ٢٠١٥، ويعد حجم الجهاز الإداري المصري من أكبر الأجهزة الإدارية في العالم بالقياس إلي نسبته إلى السكان، أو عدد المواطنين المقابل لكل موظف حكومي، وهو معدل يبلغ ضعف المعدلات السائدة في العالم. في المقابل، فإن الاعتماد على القوات المسلحة كرافعة أساسية لعملية التنمية في المرحلة الحالية يجنب تحميل تلك العملية - خاصة في مراحلها الأولى - عبء المشكلات المرتبطة بالوضع الراهن للجهاز البيروقراطي، وتزداد أهمية الاعتماد على القوات المسلحة كرافعة تنموية في المرحلة الراهنة في ضوء الصعوبات والتعقيدات التي تواجهها عملية إصلاح الجهاز الإداري. وتقدم خبرة قانون الخدمة المدنية مثالا مهما لهذه التعقيدات، في ظل ثقافة عامة مازالت تنظر إلى العمل بالحكومة باعتباره الملاذ الآمن ضد البطالة، أكثر منه مكانا للعمل والإبداع والترقي الاجتماعي والاقتصادي، في ظل شيوع ثقافة تخشى فكرة المخاطرة.

لقد لعب الجهاز الإداري للدولة في بعض الدول دورا محوريا في صياغة وتنفيذ إستراتيجيات التنمية، وفي إطار مفهوم الدولة التنموية، مثل كوريا الجنوبية في عهد الجنرال بارك، لكن هذا الدور كان مرهونا بسمات خاصة بالجهاز الإداري للدولة.

وهكذا، وفي ظل هذا الوضع كان من الطبيعي الاعتماد على القوات المسلحة في وضع أسس انطلاق عملية التنمية في مصر، دونما إلغاء لدور القطاع الخاص. ويجدر التأكيد هنا أن الاعتماد على الأذرع الاقتصادية والهندسية للقوات المسلحة يمثل بالتأكيد مرحلة مؤقتة للتعامل مع مشكلات المراحل الأولى في عملية التنمية، على نحو ما حدث في الخبرات الدولية، فما أن استقرت عملية التنمية الاقتصادية والنمو الاقتصادي في كوريا الجنوبية مع بداية السبعينيات حتى بدأ الدور الاقتصادي للمؤسسة العسكرية في التراجع بشكل سريع. ولا حاجة بالطبع لتأكيد أن إفساح دور للقوات المسلحة في تدشين عملية التنمية لم يأت على حساب وظيفتها الأساسية، فعمليات التحديث العسكري الجارية تدحض بوضوح هذه التخوفات.

لمزيد من مقالات د. محمد فايز فرحات

رابط دائم: