رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

سؤال يمكن الإجابة عليه:
لماذا الاحتشاد الكبير لاستعادة أمل دنقل فى ذكراه كل عام؟

السمّاح عبد الله
تطوف بنا هذه الأيام ذكرى أمل دنقل، وتشاء المصادفات أن تتعانق ذكرى ميلاده مع ذكرى وفاته ولا يفصل بينهما إلا أيام، وقد آثرنا أن نحتفي بميلاده لما يمثله الميلاد من معاني البدء والتجدد والطلوع، حيث فى الثالث والعشرين من يونيو عام 1940 أي منذ واحد وسبعين عاما ولد محمد أمل فهيم محارب دنقل فى قرية القلعة مركز قفـط بمحافظة قنا

وبالرغم من محاولاته المتعددة للالتحاق بالعمل الوظيفي في قنا والسويس والاسكندرية إلا أن العمل الوحيد الذي امتهنه طوال حياته هو وظيفة "الشاعر" ويبدو أنه لم يكن مؤهلا إلا لها حيث عكف طوال حياته على امتلاك ناصيتها والتدرب على السير في طرقاتها الوسيعة.

..............................................................

تفتح وعي أمل دنقل الشعري والسياسي في الحقبة الناصرية تلك الحقبة التي كانت مشحونة بأحلام المد القومي والوحدة العربية التي ملأت وجدان شعراء الستينيات والتي اغتيلت في نكسة 1967 هذه النكسة التي كان أمل دنقل من أكثر الشعراء الذين كتبوا عنها وجاءت قصائد ديوانه الأول " البكاء بين يدي زرقاء اليمامة " عام 1969 بمثابة بكائية متعددة المقامات لكنها منحازة تماما للشعب البسيط ذي الأحلام الكبرى في مواجهة السلطة الديكتاتورية التي عيشت الأمة كلها في أوهام القدرة العسكرية الفائقة والتي تكسرت تماما في الساعات الأولى من الحرب حتى أن المعدات العسكرية ضربت في مكانها قبل أن تتحرك.

كان أمل دنقل شاهد عيان على هذه المأساة وكان جبرتي الشعراء الذي يؤرخ ويدون ويوضح وعندما مات جمال عبد الناصر رثى فيه الشعراء العرب القائد الفرد المخلص المنتظر للجولة القادمة وصعد به بعضهم إلى أعلى عليين قائلا: قتلناك يا آخر الأنبياء قتلناك ليس جديدا علينا اغتيال الصحابة والأولياء، وحده أمل دنقل كان مندهشا من مراثينا العديدة له في حين أن أرضنا محتلة فقال :

لا وقت للبكاء

فالعلم الذي تنكسينه على سرادق العزاء

منكس في الشاطئ الآخر والأبناء

يستشهدون كي يقيموه على تبة

العلم المنسوج من حلاوة النصر ومن مرارة النكبة.

حتى حين تقدم الصفوف محارب آخر له سمات المنتصرين وعزمهم وحقق نصر أكتوبر كانت مرارة النكبة مالئة حلق أمل دنقل فلم يكتب حرفا في هذا الانتصار الكبير، واحد من النقاد لم يجب لنا عن هذا التساؤل الكبير : هذا الشاعر العروبي القومي الذي حلم عمره كله بالانتصار لماذا لم يكتب عنه حين تحقق على أرض الواقع ؟ لكنه فاجأ الناس بعد سنوات جد قليلة بقصيدته التنبؤية أقوال جديدة عن حرب البسوس والمعروفة باسم "لا تصالح" والتي كتبها على إثر مباحثات فصل القوات عند الكيلو 101 من طريق السويس القاهرة، هذه القصيدة التي تعد الأكثر شهرة بين كل القصائد السياسية في العصر الحديث والتي يستعيدها العروبيون وكأنها المثل المستشهد به:

لا تصالح على الدم حتى بدم

لا تصالح ولو قيل رأس برأسٍ

أكلُّ الرؤوس سواءٌ

أقلب الغريب كقلب أخيك

أعيناه عيناه

وهل تتساوى يد سيفها كان لك

بيد سيفها أثكلك؟.

ثمة سؤال آخر أظنني أستطيع الإجابة عليه : لماذا هذا الاحتشاد الكبير لاستعادة أمل دنقل في ذكراه كل عام؟ في ميدان التحرير جاءت الإجابة تحريرية وشفوية فالثوار العشرينيون الذين ولدوا بعد موت أمل دنقل لم يجدوا غير شعره يرددونه في لحظتهم العالية، وكنت أراهم في حلقات السمر الليلية يستحضرون قصيدته أغنية الكعكة الحجرية ويقرأونها:

دقّتِ الساعةُ القاسيه

كان مذياعُ مقهىً يُذيع أحاديثَه الباليه

عن دُعاةِ الشَّغَبْ

وهمُ يستديرونَ يشتعلون على الكعكة الحجرّية حول النُّصُبْ

شمعدانَ غضبْ

يتوهّجُ في الليلِ والصوتُ يكتسح العتمةَ الباقي

يتغنّى لليلةِ ميلادِ مصرَ الجديده

لذا استحق أمل دنقل أن يكون شاعر الثورات العربية بدون منازع واستطاع شعره أن يسكن حنجرة الثوار وفؤادهم.

ثمة قوسان كبيران يحيطان التجربة السياسية لشعر أمل دنقل، القوس الأول هو شعره العاطفي الذي ضمه ديوانه "مقتل القمر" والذي يمثل البدايات الشعرية له وإن كان ترتيب صدوره هو الثالث بعد ديوانيه "البكاء بين يدي زرقاء اليمامة" و "تعليق على ما حدث" وهي القصائد التي كتبها في أوائل الستينيات أي أنه كان في العشرينيات من عمره، والمدقق في هذه القصائد سيرى أنها تتمتع بفنية عالية لا تتأتى إلا للمتمرسين، وظني أن هذه القصائد، خاصة القصائد العمودية، قد ظلمت كثيرا بتعمد عدم الالتفات إليها، أما القوس الثاني فيتمثل في هذه القصائد الإنسانية العذبة الصافية التي مثلت المرحلة الأخيرة من حياته والتي ضمها ديوانه الأخير "أوراق الغرفة 8" فقد أضفت هذه القصائد على تجربته بعدا فلسفيا وعمقت رؤيته للكون، فقد كتبها أمل دنقل في لحظات حرجة يصعب على الإنسان العادي مجرد تخيلها لا معايشتها حيث لازمه المرض الخبيث لأكثر من ثلاث سنوات صارع خلالها الموت دون أن يكفّ عن الشعر ليجعل هذا الصراع على حد تعبير الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي بين متكافئين الموت والشعر، وقد بلغت هذه القصائد درجة من الفنية والإمتاع ما جعل كثيرا من النقاد والشعراء والمتابعين يرون أنها الأفضل والأبقى في تجربة الشاعر.

في حاجة نحن لاستعادة أمل دنقل بين الحين والحين ففي استعادته استعادة لكل القيم التي كان يمثلها أمل دنقل وكان يتمثلها في شعره المتنبيء الخالد الباقي الجميل.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق