رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

تتعانق ذكرى ميلاده مع يوم وفاته
أمل دنقل
شاعر الرفض والتناقضات

أسامة الألفى
ملأ الدنيا وشغل الناس، مثلما فعل شاعر العربية الأكبر أبو الطيب المتنبي، ففي شخصيتيهما نقاط تلاق كثيرة، كلاهما لم يرض الناس عن شخصه، وإن أقروا لهما بالشاعرية، وكلاهما لاقى نهاية مأساوية، فالمتنبي قُتل بعد صراع وكر وفر مع أعدائه، وأمل دنقل مات بعد صراع عنيف مع مرض عضال، نهش الموت جسديهما، ولم ينهش ذكراهما إذ بقيت حيّة بأشعارهما.

.....................................................

أمل دنقل الذي حلت الذكرى 33 لرحيله عن دنيانا يوم 21 مايو، شاعر عاصر أحلام العروبة في عصر تألقها، وخالف المدارس الشعرية الحداثية بوضوح شعره واستلهامه التراث للتعبير عن الحاضر، فعل ذلك عن اقتناع بأن التحديث يعنى قتل الماضي درسًا وفهمًا واستيعابًا وليس التخلى عنه وتجاهله، فجاءت قصائده لتفتح أمام قارئه نوافذ مشرعة على عوالم من الدهشة، بتعبيرها عما يجول بخواطر شعبه ووجدان أمته، في تجربة فريدة فيها من الثراء ما يكشف تفرد مبدع عشق الحرية بفكر شاعر، وأحب الحياة وعاشها بقلب طفل غاضب مشاكس.

لهذا اختلف الرأي حوله، فمن الناس من رفعه لمرتبة القديسين، ومنهم من هوى به أسفل سافلين، ومن ثم فأن نتاج هذا الشاعر الكبير يحتاج إلى دراسات عديدة لنتعرف على صوت التراث وتأثيره في شعره، وتبادل الغياب والاستحضار فيه وأشكال التناص، والبعد السردي الذي يميز قصائده، والجانب الفلسفي الذي يتبدى فيها، وتأثير الإيديولوجيا في إبداعه، وجانب الناقد الذاتي لديه، وغير ذلك من الدراسات التي تسبر أغوار الشاعر وتوضح كثيرا من الجوانب الخفية التي على ضوئها نفهم شعره وخفاياه.

عناصر عدة أسهمت في تشكيل وجدان أمل دنقل الشعري وهي عناصر صقلت حين رافق مجموعة من الأدباء جمعهم التصعلك والموهبة وعشق الأدب، وضمتهم شقة العجوزة أو «النداهة» كما أسماها أحدهم، وقد حدثني الصديق الشاعر شوقي حجاب عن هذه الشقة التي ضمت مجموعة من المبدعين الشباب ــ تراوحت أعمارهم أنذاك ما بين العشرين والخامسة والعشرين ــ والمواقف الكوميدية التي حدثت بينهم، وكانت تقع في بدروم خلف مسرح البالون، ليس بها من وسائل المعيشة سوى حصيرة ووابور غاز وطشت غسيل، ومجموعة كتب ملقاة على الأرض بلا نظام، وعدا ذلك كانت مزدحمة بالفكر والنقاش ورائحة العرق، وضمت المجموعة فضلا عن أمل: الناقد سيد خميس، عبد الرحمن الأبنودي، سيد حجاب، بهاء طاهر، يحيى الطاهر عبد الله، محمد جاد الرب، نبيل تاج، عز الدين نجيب، عبد الحكيم قاسم، عدلي رزق الله، خليل كلفت، وعلي كلفت، وكان يزورها أصناف عدة من المبدعين منهم صلاح جاهين وأحمد عبد المعطي حجازي وأحمد فؤاد نجم والشيخ إمام وطارق البشري وآخرون.

وكما تكشف أسماؤهم فقد انتموا إلى شتى أنواع الإبداع مابين شعر ورواية وقصة وفن تشكيلي وفكر، أو بالأحرى كانوا مشاريع مفكرين ومبدعين، جمع بينهم الفقر والإبداع والتمرد والفكر الاشتراكي وشقة العجوزة، لم يكونوا يملكون مالاً إلا قروشًا قليلة مشاعة فيما بينهم يتقاسمونها بالرضا والحب، إلى جانب ما كانت تجود به عليهم أم سيد خميس بنفس راضية، وقد كان لهذه السيدة الريفية البسيطة التي لا تملك من حطام الأرض سوى 4 قراريط في بلدتها «برقاش» فضل كبير على مجموعة المبدعين الصعاليك المقيمة بالشقة، فكانت تعطيهم ما يتيسر لديها من مال، وتطبخ وتنظف لهم دون انتظار جزاء ولا شكورًا، وقد ماتت هذه السيدة العظيمة في السبعينيات من القرن الماضي، فيما لاقى ولدها الناقد سيد خميس ــ على ما قال لي الصديق شوقي حجاب ــ عقوقًا حين مرضه ثم وفاته عام 2003م ، فلم يقف إلى جواره خلال رحلة المرض وعذابه في مستشفى قصر العيني سوى المثقف الراحل د.سمير سرحان الرئيس الأسبق للهيئة المصرية العامة للكتاب، والفنان محمود حميدة، وتجاهله الآخرون في نكران عجيب للفضل والعشرة، وبموته لم تفقد مصر ناقدًا كبيرًا فحسب، وإنما خسرت أيضًا مثقفًا موسوعيًا، وإنسانًا عظيمًا باع ورثه وأملاكه لينفق على زملائه المبدعين، فخذلوه حين أحتاج مساندتهم ومات مدينًا للقصر العيني بعدة آلآف من الجنيهات لم يكن يملكها.

لم تكن شقة العجوزة المكان الوحيد الذي أقام فيه أمل خلال رحلة الصعلكة والتشرد إذ كان يبيت في أي مكان يتصادف أن يتواجد فيه من بيوت الأصدقاء، وتشارك شهرًا مع الروائي يحيى الطاهر عبد الله في غرفة بفندق في شارع طلعت حرب، أسماه «شهر العذاب» على ماذكرت عبلة الرويني في كتابها «الجنوبي»، للضجيج الذي كان يحدثه يحيى، وظل على هذه الحال، يعيش مفلسًا، يعتبر المقاهي والشوارع بيته دون أن يعرف الاستقرار حتى التقى عبلة الرويني عام 1975م وتزوجا، وعرف للمرة الأولى بعد سنوات من الصعلكة معنى أن يكون له بيت.

من يملك العملة يمسك بالوجهين

والفقراء بين بين

أيها الشعر .. يا أيها الفرح المختلس

لكن هيهات أن يؤدي الزواج والاستقرار النسبي إلى تغيير ما استقر في وجدانه بشأن القصيدة وحياة الشاعر، فالقصيدة عنده أشبه بحلم يفرغ فيه عوامل الكبت الحضاري والتوترات التي تعتمل في صدره، محققًا ما يمكن أن نصفه بالتطهير الذاتي (كاثارسس)، فهي عنده ليست مجرد قواف تسترسل أو موسيقى تصدح، لكنها قبل هذا وبعده معان تتدافع وتتعانق في حركة متسارعة معبرة عن الإنسان أحزانه وأحلامه، أو الصدام بين الواقع والحلم، عبر حكاية سردية أو استعادة لحادثة تاريخية يعيد النظر في وقائعها، يقلبها ويدرجها في الواقع المعاش، ولا يجد غضاضة في تضمين أبيات لشاعر آخر مادام يحقق الإسقاط الذي يريده، فعلها في أكثر من قصيدته منها «من مذكرات المتنبي في مصر» حيث تناص معها ونزع غلالة زمنها عنها:

.. تسألني جاريتي أن أكترى للبيت حرّاسا

فقد طغى اللصوص في مصر .. بلا رادع

فقلت: هذا سيفي القاطع

ضعيه خلف الباب .. متراسا !

(وما حاجتي للسيف مشهورا

ما دمت قد جاورت كافورا ؟)

.. «عيد بأية حال عدت يا عيد ؟»

بما مضى؟ أم لأرضى فيك تهويد؟

(نامت نواطير مصر عن عساكرها)

وحاربت بدلا منها الأناشيد

رفض السلطة أينما كانت ورفض التفاوت الطبقي وتقسيم الناس إلى حكام وعبيد ربما كانت السمة التي تميز أمل، فالحرية هدفه، وكراهة الظلم أيًا كان نوعه تجرى في دمه، هو شاعر يرى أن الضعيف لا أصدقاء له بينما القوي يتزاحم من حوله الأصدقاء، فكان يفضل مجالسة بسطاء الناس على مجالسة الكبار ولا منطقة وسط عنده، يفضل لقاء بائع الفول وماسح الأحذية على تلبية دعوة وزير للعشاء، والجلوس على مقهى شعبي عن ارتياد صالات فنادق الخمسة نجوم، شاعر يدمج الممارسة الحياتية للناس في متن قصائده، ويستخدم مفردات نابعة من داخل الإنسان البسيط، تحتفل بذكر الشوارع والحواري والأزقة والمقاهي والحافلات، وغير ذلك من المفردات المرتبطة بالصعلكة ورجل الشارع، يقول في قصيدة السويس:

عرفت هذه المدينة الدخانية

مقهى فمقهى .. شارعا فشارعا

رأيت فيها اليشمك الأسود والبراقعا

وزرت أوكار البغاء واللصوصية

على مقاعد المحطة الحديدية

نمت على حقائبي في الليلة الأولى

وفي غرفته بالمستشفى حيث مات، ولد آخر دواوينه «أوراق الغرفة 8»، حاملاً رقم الغرفة التي شهدت صراعه مع الموت بالمرض الخبيث، وهو الصراع الذي وصفه رفيق دربه الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي بأنه «صراع بين متكافئين: الموت والشعر».

وفيما كان يصارع سكرات الموت لم تفارقه روح الصعلكة الساخرة التي غلفت طالما قصائده واعتادها قارئه، فلم يكن الموت يعنيه كثيرًا بقدر ما تعنيه مفارقات الحياة وتناقضاتها، ينظر سلال الورد التي أرسلها له الأصدقاء والأحباء والمعجبون تعبيرًا عن محبتهم له، فلا يرى فيها حبًّا وإنما حياة سُلبت وسجل قاتلها اسمه على بطاقة أرفقها بها:

وسلالٌ منَ الوردِ

ألمحُها بينَ إغفاءةٍ وإفاقه

وعلى كلِّ باقةٍ

اسمُ حامِلِها في بِطاقة

كلُّ باقهْ..

بينَ إغماءة وإفاقهْ

تتنفسُ مِثلِىَ - بالكادِ - ثانيةً.. ثانيهْ

وعلى صدرِها حمَلتْ - راضيهْ...

اسمَ قاتِلها في بطاقةْ

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق