رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

الجامعة العربية ومستقبل الدولة الوطنية

فى الأعوام الأربعين الماضية مرت المنطقة العربية بأزمات وحروب وتقلبات داخلية فى أغلب دولها سددت ضربات مؤلمة للنظام الإقليمى الذى توهمنا لسنوات طويلة أنه قائم وينمو ويملك مستقبلا ثم حدث ما حدث بعد غزو العراق للكويت عام 1990، ثم بعدها بأكثر من عقد جاء الغزو الأمريكى للعراق عام 2003، بكل تداعياته الكارثية وبعد عقد آخر كانت الانقسامات قد دبت فى أرجاء المنطقة من الخليج إلى المحيط تحت وقع ما سمى بثورات الربيع العربى التى انحرفت إلى مخططات تقسيم وهيمنة وبروز دول صغيرة بأدوار غير معلومة النسب ودول من خارج المنطقة تريد فرض هيمنتها على الأوضاع فى داخل المنطقة العربية طمعا فى توسيع نفوذها.

فتح ضعف الدولة العثمانية ووجود الاستعمار البريطانى والفرنسى فى قلب المنطقة العربية الطريق أمام ظهور الدولة العربية بعد الحرب العالمية الأولى وتوقيع تفاهمات ترسيم الحدود الشهيرة باتفاقيات «سيكس ــ بيكو» والتى وضعت فى عهود الاستعمار وتركت وراءها احتقانات وميراثا لم تنجح فكرة تأسيس جامعة الدول العربية فى أربعينيات القرن العشرين فى إذابتها أو الوصول بالحالة القٌطرية القائمة على التشدد القبلى والمذهبى والتصنيف السياسى إلى مرحلة من التعاون الإقليمى القائم على تغليب المصالح الاقتصادية المباشرة للإقليم دون سواها من المصالح الضيقة للنظم السياسية التى حكمت لمدة أكثر من 70 عاما بعد إنشاء الجامعة حتى أوصلتنا إلى محصلة أن النظام الإقليمى هو أقرب إلى «وهم» عشنا معه أو تعايشنا فى وجوده شكليا بينما كانت عوامل الهدم والانهيار موجودة دون أن نتحرك لوقف تداعياتها خاصة فى الأعوام العشرين الأخيرة.

نعم، كانت هناك محاولات تأسيس الدول على أسس الدولة الوطنية فى العالم العربى بعد الحرب العالمية الثانية إلا أن تفاقم الأزمات الداخلية حال دون استمرار بعض المشاريع الطموح وفرضت أزمات بعينها تأسيس دول حديثة على أسس من التوازنات الطائفية، وعندما ساد الاضطراب وتداخلت المصالح فى العقدين الأخيرين لم تحصد دول بعينها مثل سوريا ولبنان والعراق واليمن سوى الانقسام والتقسيم الطائفي، وصولا إلى تداول القوى المؤثرة فى الساحة الداخلية فى تلك الدول لمشاريع تقسيم أو «محاصصة» جديدة ستؤدى إلى مزيد من الفرقة بين شعوب تتحدث لغة واحدة وتجمعها موروثات ثقافية وتاريخ مشترك لا يقف عند حدود الدين فقط، ولكنه يتعدى ذلك إلى بنيان ثقافى عريض لا يتوافر بسهولة لمنطقة جغرافية متصلة مثل ما هو موجود فى العالم العربي.

 ... هل العيب فى مناخ التأسيس أم فيما حدث بعد قيام الجامعة العربية؟! 

ظهرت الجامعة نتيجة فكرة بريطانية طرحها الوزير أنتونى إيدن عام 1936 وقت حكومة الزعيم مصطفى النحاس وانصب الاقتراح وقتها على قيام «رابطة للدول العربية»، و نشطت الجامعة بعد ثورة 1952 وتحديدا بعد قرار تأميم قناة السويس فى عام 1956 بعقد مؤتمر قمة بيروت المصغرة تضامنا مع مصر ضد العدوان الثلاثى ، ثم ظهرت مؤسسة القمة العربية عام 1964 رداً على قيام إسرائيل بتحويل مجرى نهر الأردن . وعملت آلية مؤتمرات القمة جنبا إلى جنب مع الجامعة من أجل بناء مواقف موحدة فى قضايا عربية بعينها. 

لكن كانت أول الأخطاء الكارثية فى مسيرة الجامعة أنها لم تحول التوافق السياسى فى القضايا العربية الكبرى إلى عمل «مؤسسي» مؤثر وليس مجرد استعراض لقدرات زعماء وقادة أمام الكاميرات، بينما فى الغرف المغلقة وفى العواصم العالمية يبرمون صفقات مغايرة تماما عما جرى التوافق بشأنه فى القمم العربية! وثانى الأخطاء الكارثية هو عدم إحالة ميثاق الجامعة إلى واقع، خاصة ما يتعلق بتوقيع وثيقتين رئيسيتين مكملتين للميثاق الأساسي هما: معاهدة الدفاع العربى المشترك (أبريل  1950)، وميثاق العمل الاقتصادى القومى العربى (نوفمبر 1980)،  حيث كان يمكن أن تمثل وثيقة العمل الاقتصادى نقلة نوعية كبيرة لو خلصت النيات ووضعت المصالح العليا للشعوب العربية فوق مصالح الأنظمة، فقد أكدت الوثيقة على أن: «العمل الاقتصادى يمثل عنصرا رئيسيا فى العمل العربى المشترك وقاعدة راسخة ومنطلقا ماديا له ولكونه يشكل الأرضية الصلبة للأمن القومى الذى يتعزز بالتنمية المستقلة الشاملة فجدوى العمل المشترك تتجاوز الجمع الآلى للعمل القطري».  كما أن بنود الوثيقة بدت كما لو كانت تعبر عن حالة نضج حقيقى بين الدول العربية عندما قالت: »تلتزم الدول العربية بتحييد العمل الاقتصادى العربى المشترك عن الخلافات العربية وابعاده عن الهزات والخلافات السياسية الطارئة، باعتباره الأرضية المشتركة لبناء التضامن العربى عن طريق المصالح المتبادلة، ونسج الصلات العضوية والوشائج التى تحقق المنافع المتوازنة، وتتعهد جميع الأقطار العربية بالسعى لتحقيق أقصى حد من الاستقرار والتطوير للعلاقات الاقتصادية العربية او تقليصها إلا بقرار من المجلس الاقتصادى والاجتماعى العربى وعند الضرورات القصوى المرتبطة بالمصالح القومية العليا المشتركة». الا أن ما جرى بعد عام 1980 سار فى الاتجاه المخالف تماما لما سبق.. وبعد ثلاثين عاماً جاءت رياح ما سمى بالربيع العربى لتهدد كيانات الدولة الوطنية بالتفتيت وربما إعادة تشكيل المنطقة من جديد ليصبح السؤال المنطقي: كيف نحمى مستقبل الدولة الوطنية قبل أن نبحث مستقبل الجامعة العربية؟!،

بداية يجب الاعتراف بأن مستقبل المنطقة العربية يتحدد من خلال خليط من تشابكات المصالح والأطماع من داخلها ومن خارجها مثلما اعتادت فى الأعوام المائة الأخيرة. فقد عاد اللاعبون الكبار من جديد إلى الساحة العربية ولديهم قوات عسكرية وهيمنة على الأرض وفى الأجواء العربية سواء كانت الولايات المتحدة أو حلف شمال الأطلنطى أو القوى الأوروبية التقليدية، ومعها القوى الإقليمية الساعية إلى توطيد مصالحها فى الداخل العربي. وتعمل تركيا وإيران وإسرائيل على تحقيق تلك المصالح من خلال مساومات واضحة مع القوى الكبرى نتيجة إمتلاكها أوراق فى اللعبة الدائرة فى الشرق الأوسط. فى ظل ضعف الكتلة العربية، فمن ناحية تبرز تركيا التى تحلم بفضاء أوسع يعيد هيمنة «الخلافة العثمانية» فى الشرق الأوسط وفى الفناء الخلفى فى آسيا الوسطى بينما تستخدم إيران الأقليات الشيعية فى الخليج لبناء حالة شبيهة من النفوذ الذى يرمى إلى قيام إمبراطورية إيران الفارسية. وهناك عملية تطويق تقوم بها إسرائيل فى أكثر من اتجاه سواء فى العلاقات مع دول كبرى مؤثرة فى الصراع العربي-الإسرائيلى أو من خلال التحركات المكثفة فى مناطق لها علاقة بالأمن القومى العربى (زيارة بنيامين نيتانياهو لدول حوض النيل مؤخراً كمثال على دبلوماسية أكثر زخماً).  ففى مقابل التحركات والخطط السابقة، تجرى عمليات تقسيم جديدة فى المنطقة على قدم وساق على أسس طائفية ودينية وعرقية بينما تغيب الرؤية العربية بشكل كامل ولا نملك سوى بيانات ردود الفعل من جانب مؤسسات العمل العربى المشترك ولا تخرج سياسات تلك المؤسسات عن المواقف الروتينية العقيمة التى لم تعد ملاءمة لحجم الخطر!.

 الشرخ العربى هائل ولا يقف فقط عند مسألة الفعل «السلبي» أو عدم اللامبالاة فى مواجهة الأخطار القائمة. فهناك ما هو أخطر. فالعرب يتورطون اليوم فى قتل بعضهم البعض. فى سوريا والعراق وليبيا ولولا جيش مصر العظيم لكانت مصر ساحة أخرى للاقتتال الأهلي. جيش مصر أنقذ المنطقة من كارثة أكبر وأعمق مما هو موجود، إلا أن الدرس لم يتم استيعابه كاملا فمازالت هناك أطراف عربية تمول علميات القتل والفتنة فى دول عربية شقيقة وهناك من يمول علانية جماعات الإرهاب ويوفر لها السلاح أيضا تحت مسمى تشجيع الربيع العربي.

مـا الـعمل..؟

الوضع الحالى فى العالم العربى لا يمكن استمراره على حاله لأن الاحتفاظ بالحالة الراهنة يعنى نهاية العرب ومستقبلهم سيكون مرهونا بغيرهم لأن السكوت على الحالة القائمة يعنى السير بقوة نحو التفكك والتمزيق. فالنظام العربى الحالى القائم علي المسكنات أو التسكين للمشكلات والقضايا الكبرى لم يعد مجدياً. فهناك رغبة فى إصلاح الأوضاع الداخلية وهى ضرورة حتمية بلاشك، وهناك رغبة شعبية فى معظم المجتمعات العربية لمواجهة حاسمة مع الفساد وهو ما لا يمكن الجدل بشأنه. فلابد من التفكير فى نظام عربى جديد يجمع ما بين القدرة على البناء الداخلى المتماسك ورؤية إقليمية تستفيد من البنيان الداخلى المفترض.

مع بدء الأمين العام الجديد للجامعة العربية السفير أحمد أبو الغيط لمهام منصبه فى توقيت لا يحسد عليه، إن الجامعة فى حاجة إلى صياغة ورقة عمل على نحو سريع تضع القادة والحكومات امام مسئولياتهم الخطيرة فى تلك المرحلة. والأكثر أهمية أن تبلور «ورقة العمل» طريقة تعاون الدول الرئيسية فى النظام العربى وهى اليوم مصر والسعودية والإمارات والجزائر والمغرب لوضع تصور جديد لنظام عربى متطور يعالج آثار إخفاق جامعة الدول العربية فى مهمتها على مدى سبعة عقود.

 يوجد أساس جديد للتعاون الاقتصادى من واقع الوثائق الموقعة بين الدول العربية فى الماضى ويبقى أن تكون هناك إرادة سياسية فعلية تنظر إلى ما رأيناه فى وثيقة عام 1980 وتحدد طرق تفعيل التعاون الاقتصادى وهو بالمناسبة طريقة مثلى من أجل تخفيف حدة القلاقل السياسية فى المنطقة العربية.

 الأمر الثانى وهو نظر تلك الدول الكبيرة فى مسألة تشكيل قوة عربية لمحاربة جماعات الإرهاب تدعم المجتمعات التى تعانى تمدد تنظيمات مثل داعش فى أراضيها دون وجود طرف يمكن الوثوق فى تدخله. ولا أريد هنا أن أتوسع فى تعريف القوة العربية المشتركة حتى لا يكون حبرا على ورق. فقدر المستطاع أن نحدد ما نريد ولا نتمدد على الورق دون قدرة على تحقيق الأمر فى الواقع. ولا مانع فى إطار التعامل الواقعى والصريح مع أزمات المنطقة أن نؤسس منظمة عربية (أو إقليمية) جديدة تضم دول الجوار من أجل إجراء حوار صريح معها أو الإبقاء على الجامعة العربية وفتح حوار صريح مع دول الجوار خاصة تركيا وإيران وإثيوبيا حول مصالحها المباشرة فى المنطقة العربية وكيفية تطوير علاقات تعاون بعيدة عن التدخل المباشر فى الشئون الداخلية أو تهديد الأمن القومى العربي.

 العرب يعلمون أن هناك قوى عالمية تريد بقاء حالة الشرذمة فى المنطقة وهناك من يريد تحويل «الدول» إلى «دويلات» ويعلمون أن الدول الهشة ستكون تحت إمرة دول كبيرة خارج العالم العربي، ودون الاستيقاظ من حالة السبات الحالية ودون تدبر ما يمكن فعله ستكون السنوات القليلة المقبلة هى الأصعب بالنسبة لنا ولن يجدى مع حالنا المسكنات. فقد بدأ العرب التفكير في الجامعة العربية قبل الوحدة الأوروبية، وهاهى تجربة أوروبا تنمو وتكبر وتتعرض لأزمات ولكنها فى جميع الأحوال أثمرت عن ظهور كيان قادر على الدفاع عن نفسه والبحث عن سبل البقاء معا فى تجمع إقليمى كبير يخدم مصالح الدول الأعضاء.

 ما نريده اليوم ان نخرج من النفق الطويل المظلم. ومن منطلق المسئولية التاريخية لمصر ولصحيفة كبرى عاشت ولادة حلم الجامعة العربية وعاشت الانكسارات والإخفاقات تفتح «الأهرام» الباب للمساهمات الفكرية للسياسيين والمثقفين المصريين والعرب من أجل طرح أفكارهم ورؤاهم مع الأمين العام الجديد للجامعة العربية أحمد أبو الغيط بعد أن طرح أفكاره فى حواره مع الأهرام يوم الأحد الماضي. ويمكن مراسلة «الأهرام» على إيميل صفحة الرأى.

 [email protected]


لمزيد من مقالات محمد عبد الهادى علام

رابط دائم: