رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رحلة مع ساكنى الأرصفة

تحقيق ــ علا مصطفى عامر

► الثأر والطلاق والعقوق أهم أسباب الخروج للشارع


► شباب يقتحمون عزلة المشردين ويجبرونهم على العودة للحياة


► تكاليف الرعاية مشكلة.. وتدخل رجال الأعمال يحلها

 

 

قد تعتقد أنهم مختلون أو مرضى نفسيون، أو بالعكس قد تظنهم عقلاء وربما حكماء لكنهم صامتون أو مكتئبون.. قد يخيفك طول أظافرهم وتشابك شعورهم، وتشمئز من رائحة أجسادهم، أو تنتابك مشاعر الشفقة والرحمة بهم فتحاول إطعامهم، أو إحضار شئ يوارى سوءاتهم.. كلنا نراهم منذ كنا صغارا يهيمون على وجوههم .. يقذفهم الأطفال بالحجارة، لا أحد يعرف عنهم سوى حكايات وهمية ، تمتزج عادة بالأشباح والكائنات الخرافية، ولا أحد يعرف حقيقة لماذا يمضى هؤلاء «أرذل العمر» على سخونة الأسفلت وبرودة الأرصفة !!

فجأة وجدت نفسى أقترب من معرفة إجابة هذا السؤال، بمجرد أن لفت انتباهى كغيرى من متابعى الفيس بوك صور متكررة لشباب فى مقتبل العمر يقتحمون عالم الأرصفة والشوارع مدججين بوسائل وأدوات النظافة، يعملون بكل همة مع سكان الأرصفة ممن طال عليهم الأمد بلا ماء يطهر أجسادهم أو رغوة صابون تعيد اللون الأصلى لجلودهم، سارعت بالتقاط طرف الخيط واجراء اتصال تليفونى قادنى إلى قضاء سويعات قليلة مع بعض من قاطنى الأرصفة بعد انتشالهم منها، إلى مدينة 6أكتوبر شددنا الرحال، وما ان وصلنا العنوان الموصوف لنا من المسئولين عن هذا النشاط والذى اسموه «معانا لانقاذ انسان» وجدناه أشبه بفيلا صغيرة دور أرضى كان الباب مفتوحا، وصوت التليفزيون مسموعا، وبالداخل وجدناهم جميعا جالسين مابين محملق فى الشاشة المعلقة، مابين منكس الرأس حزين ومابين مبتسم يرحب بنا بابتسامة ونظرة تفاؤل، أول من استقبلنا دينامو هذا المكان (معتز حسن) الذى لا يفتر عن الذهاب والمجيء وسطهم يرتب أغراضهم، ويهمس بحنو فى آذانهم، ينبئهم بموعد الصلاة، ويوقظهم ليتناولوا سحورهم، فهم جميعا يصومون رمضان، رغم عللهم وكبر سنهم.




الطرد بعد الجلطة !

وبدأنا نفك الالغازبحوار غاية فى الصعوبة مع محسن عبد العزيز الذى تعرض لجلطة فى المخ أصابته بعلة واضحة فى قدميه، وفى لسانه، فكان يردد الكلام مراراً وتكراراً حتى نفهم، وبالفعل فهمنا سبب وجوده بالشارع لأكثر من عام، إنه الجحود والعقوق والنكران من زوجة وثلاثة أبناء، لم يرضوا بتغير حال والدهم سائق النقل الثقيل، الذى أصابته جلطة مفاجئة هدت حيلة وأقعدته عن العمل وجعلته محتاجا للرعاية والتمريض، فلم يترددوا مطلقا بعد خروج أبيهم من المستشفى فى أن يطردوه من بيته، فخرج حزينا كسيرا ليفترش الرصيف بنفس منطقة سكنه بجسر السويس، بكلماته المتقطعة قال لنا قاصدا أبناءه : أنا زعلان منهم أوي، تركناه ليستعد لصلاة الظهر وهو يترنح ممسكا بالمشاية، ووقتها أخبرنى «معتز» أن ابنة عم محسن عندما شاهدت صوره على الفيس بوك جاءت لتصطحبه ولكنها أعادته مرة أخرى رافضة رعايته!!

سعيد مصطفي.. كان فى حالة سيئة جدا بالشارع يرفض الكلام مطلقا، ويقضى حاجته فى ملابسه، ولا يستجيب لأى اهتمام، أشقاؤه تعرفوا عليه من صوره وأبدوا استعدادهم لزيارته من حين لآخر، مع الرفض التام أيضا لرعايته أو تحمل مسئوليته، ولكن نفسيته تحسنت كثيرا فأصبح يبتسم ويتكلم، قال لنا انه كان يعمل بتصليح الأحذية بمحطة الرمل، ولم يستطع أن يقول ماالذى جعله يبيت بالشارع!

(محمد سعيد عبد القادر) .. نموذج مختلف تماما عن التصور المعتاد للمسنين بالشوارع، وشعرنا من حكايته أنها النهاية أو العقاب المناسب لحياة أمضاها فى ممارسة السرقة وتحديدا النشل، يقول: كنت معلم نشال فى طنطا،وكنت أيضا صاحب مزاج وكيف أتعاطى البرشام وأدخن الحشيش، ولما فشلت أمى فى إصلاحى خاصة بعد دخولى السجن أكثر من مرة تبرأت منى وطردتنى إلى الشارع، فأصبحت على الرصيف ليل نهارماباكلمش حد ولا حد بيكلمني، وكل يوم كنت ألاحظ أن نظرى بيقل لحد ماصحيت لقيت الدنيا ضلمة قدامى وعرفت أنى اتعميت... أنا دلوقتى باصلى واصوم واسمع قران بعد ماجابونى فى الدار وآدى آخرة المشى البطال .


مطلقات فى الشارع

وفى جناح السيدات سمعنا الحكايات، وأدركنا أن «الطلاق» كان سببا لوجود أغلبهن بالشارع، بعد أن أضاع الزوج حلم السكن من امرأة لا تمتلك صحة ولا مالا، «نجاح عبيد» ذاقت الطلاق مرتين وانتهى بها الحال للمبيت بالقرب من سينما فاتن حمامة لأكثر من عامين، تقول: كنت نايمة وصحيت على بنت واقفة تصورنى بتليفونها وقبل ما اغضب واوبخها لقيتها بتقولى ترضى تروحى دار مسنين بكره ؟ فقلتلها ياريت تاخدينى انهارده .. سألنا نجاح عن تجربة مبيت إمرأة فى الشارع فبكت وقالت: فى الشارع مافيش رحمة من الناس ولا من المطر ولا برد الشتا وسخونة الصيف،لكن ماتحمليش هم الأكل لقمتك بتيجى لحد عندك برضه فى ناس أهل خير. بس أنا عاوزاكى توصلى صوتى لأى حد يقدر يطلعنى أزور النبي، لأن بعد ماسبت الشارع ماعادش لى طلب غير أنى أروح هناك .

( سيدة ) عاشت مرارة الطلاق مع الزوج ومرارة الجحود مع الأخ الذى رفض أن تبيت لديه بحجرة مخزن يمتلكها، وتركها تبيت فى الشارع على كرسيها لأنها أصبحت غير قادرة على الوقوف على قدميها، تقول: كنت انتظر أى شباب معديين بليل عشان ينزلونى من على الكرسى أفرد طولى على الرصيف، والصبح نفس الشيء وفى ناس كانت بتخاف مني، أو يمكن مابترضاش تلمسني، أنا كنت باقضى حاجتى فى هدومى لأنى مشلولة، لحد مافى يوم ربنا بعتلى واحد بتاع محل أجهزة طبية بالمنيرة شافنى وكلم واحدة بوابة علشان تبقى مسئولة عن نضافتى وتحميني، فى الشارع لقيت الناس الحنينة أوى وكمان لقيت الناس القاسية الى ممكن تكب عليك ميه لو قعدت قدام بيتها!!



لا للتبرعات !

على صفحتهم على الفيس بوك كانت أهم تأكيدات فريق « حياة جديدة « أنهم لا يجمعون فلوسا كتبرعات للحالات، وهو ما كان محور نقاش مع محمد حسيب وهو شاب لم يكمل الثلاثين من عمره ويعمل مهندسا باحدى شركات المقاولات، قال لنا: خطأ كبير أن ينزلق المتصدى للعمل الإنسانى لقبول تبرعات من الناس بعد الإعلان عن حالات تحتاج رعاية وعلاجا، وقال انه يجب إدراك أن هذا عمل مخالف للقانون، كما أنه يخلق مجالا للشبهات، وقال انه يعتمد وأصدقاءه فى حالات مسنى الشوارع التى تعاملوا معها على تبرعاتهم الشخصية وأسرهم واصدقائهم، مؤكدا ان قبول التبرعات سيكون بعد أن يكون لهم كيان خيرى مشهر ومعتمد، ومن تجارب «حسيب» أكد لنا خطأ نظرية المرض العقلى للموجودين على الأرصفة، فأحد من تعاملنا معه تبين أنه هارب من ثأر بالصعيد ولم يجد مأوى بعد أن هجر بيته وعمله سوى أرصفة القاهرة، وهناك من تعرض لصدمة عائلية أو مادية مثل عم أحمد والذى ظل قرابة ثمان سنوات مقيما بجحر وراء قسم الأزبكية بعد أن استولى أولاده على أمواله، واستغرق اقناعه بالعودة للحياة أياما كاملة حتى استجاب لنا، وأضاف: حاليا هناك مقر للمسنى بمحافظة السويس يرحب بالحالات الى نجدها بشرط أن نوفر من يرعاها، وهناك حالات أخرى نجحنا فى ايجاد عمل لها ولكن طبعا على ضمانتنا الشخصية.. وأهم ملاحظة ذكرها لنا مسئول فريق حياة جديدة أن مسنى الأرصفة لا يمدون أيديهم، بل ان معظمهم يرفض الفلوس، وممكن أن يقبل بطعام قليل، وعلى هذا يجب النظر إليهم فهم ليسوا متسولين، ولا مجانين.

الإيواء للجميع

نفس النشاط بدأه قبل نحو سبعة أشهر مجموعة من شباب وفتيات، تقدموا بأوراقهم للجهات المسئولة لإشهار جمعية تحت عنوان «بسمة للايواء» ورغم أن مقر هذا الفريق الذى تجاوزعدد أعضائه ستين عضوا محافظة الشرقية إلا أنهم قادرون على الانتشار والوصول لأى نقطة فى الجمهورية، أحمد صلاح أحد المسئولين بفريق بسمة والطالب بكلية الهندسة قال لنا: لن نترك أحدا بالشارع سواء كان كبيرا فى السن أم صغيرا، فكل مايؤلمنى وأصدقائى هو فكرة الإنسان بلا مأوى وبلا رعاية وبلا سكن، وربما يقتصر دورنا على إعادة الحالة لأهلها مثل حالة أيمن 38 سنة والذى كان مقيما بالشرقية عند كوبرى الصاغة ولما قمنا بنشر صوره بعد قص شعره وتبديل ملابسه، تعرف عليه أهله وتبين أنه كان مصابا بحالة نفسية مفاجئة جعلته يستقل القطار ثم يتوه ليصبح من سكان الشارع، ومن أغرب الحالات التى واجهتنا كانت شخصية عم جعفر، ولم يكن معروفا للأهالى ببلبيس سوى بلقب ( أبو شوال ) وكان الكل يخافه لأنه يقذف بالطوب من يقترب منه.. الطريف أن عم جعفر بعد أكثر من 15 عاما قضاها بالشارع عاد إلى أسرته وسط فرحة عارمة.

كل هؤلاء شباب وشابات اختاروا حياة أخرى غيرالنوادى والكافيهات ، لم يرضوا بأن يكون وقتهم لأنفسهم فقط أو دراستهم أو حتى أسرهم، ربما يكونو مدركين تماما لمبدأ: ما استحق أن يولد من عاش لنفسه فقط، أو ربما تكون الرغبة فى تكملة دور للدولة به عجز شديد وتقصير واضح، لأنها برأيى الأولى بالتقاط هؤلاء من الشارع، وتحمل مسئوليتهم الصحية والجنائية، لأن منهم من هو بلا أوراق تثبت له أى هوية !! وبعد أن رأينا تسابق الشباب لاستقطاب المعاونين وللابلاغ عن أى حالات بجميع أنحاء الجمهورية، هل يأتى اليوم الذى نمشى فيه ولا نجد عجوزا يلتحف ببطانية، أو امرأة تتعرى من ملابسها ولاتجد من يسترها !! هل يأتى اليوم الذى يختفى فيه ساكنوا الأرصفة من بلادنا ؟

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق
  • 1
    ابوهريره عبد الرحمن
    2016/07/04 13:13
    0-
    1+

    ابكيتموني
    والله دمعت عيناي وانا اقرا هذا التحقيق لما فيه من انسانيات افتقدناه -- ولكن هاهو الشباب المصري الاصيل الذي اعاد للانسانية بهائها وبريقها بعد ان طغت الماديات على تصرفاتنا وافكارنا -- حماكم الله وجعلكم دوما عونا للضعفاء والمساكين -- حقيقة انا فخور بهؤلاء الملائكة من ابناء مصرنا الغالية
    البريد الالكترونى
    الاسم
    عنوان التعليق
    التعليق