كان فى سالف العصر والأوان رجل طيب السريرة صافى الضمير، رزقه الله طفلا ذكى الفؤاد ذلق اللسان.. فكانت أمتع لحظاته ساعة يجلس إلى طفله يتحادثان كأنهما صديقان.. فيلحظ كأن فارق السن وفاصل الزمن مرتفع من بينهما كستارة وهمية من حرير، فإذا هما متفقان متفاهمان، لهما عين العلم وعين الجهل بحقائق الوجود وجواهر الأشياء..
نظر الرجل يوما إلى طفله وقال:
ـ شكرا لله.. أنت نعمة من الله!.
فقال الطفل:
ـ إنك يا أبت تتحدث كثيرا عن الله.. أرنى الله!..
ـ ماذا تقول يابنى؟
لفظها الرجل فاغر الفم، ذاهل الفكر، فهذا طلب من الطفل غريب لايدرى بما يجيب عنه.. وأطرق مليا.. ثم التفت إلى ابنه مرددا كالمخاطب نفسه:
ـ تريد أن أريك الله؟.
ـ نعم.. أرنى الله!..
ـ كيف أريك ما لم أره أنا نفسى؟!.
ـ ولماذا يا أبت لم تره؟.
ـ لأنى لم أفكر فى ذلك قبل الآن.
ـ وإذا طلبت إليك أن تذهب لتراه.. ثم ترينى إياه؟..
ـ سأفعل يابنى.. سأفعل.
ونهض الرجل.. ومضى لوقته وجعل يطوف بالمدينة يسأل الناس عن بغيته، فسخروا منه، فهم مشغولون عن الله ومشاهدته بأعمالهم الدنيوية.. فذهب إلى رجال الدين فحاوروه وجادلوه بنصوص محفوظة، وصيغ موضوعة.. فلم يخرج منهم بطائل.. فتركهم يائسا.. ومشى فى الطرقات مغموما يسأل نفسه: أيعود إلى طفله كما ذهب خاوى اليد مما طلب؟.. وأخيرا عثر بشيخ قال له:
ـ »اذهب إلى طرف المدينة تجد ناسكا هرما لا يسأل الله شيئا إلا استجاب له.. فربما تجد عنده بغيتك
فذهب الرجل توا إلى ذلك الناسك وقال له:
ـ جئتك فى أمر أرجو ألا تردنى عنه خائبا.
فرفع إليه الناسك رأسه بصوت عميق لطيف:
ـ أعرض حاجتك!.
ـ أريد أيها الناسك أن ترنى الله!..
فأطرق الناسك وأمسك لحيته البيضاء بيده وقال:
ـ أتعرف معنى ما تقول؟.
ـ نعم.. أريد أن ترينى الله!.
فقال الناسك بصوته العميق اللطيف:
ـ أيها الرجل!.. إن الله لايرى بأدواتنا البصرية.. ولايدرك بحواسنا الجسدية.. وهل تسبر عمق البحر بالأصبع الذى يسبر عمق الكأس؟!
ـ وكيف أراه إذن؟.
ـ إذا تكشف هو لروحك.
ـ ومتى يتكشف لروحى؟
ـ إذا ظفرت بمحبته.
فسجد الرجل وعفر التراب جبته وأخذ يد الناسك وتوسل إليه ـ قائلا:
ـ أيها الناسك الصالح.. سل الله أن يرزقنى شيئا من محبته.
فجذب الناسك يده برفق وقال:
ـ تواضع أيها الرجل واطلب قليل القليل.
ـ فلأطلب إذن مقدار درهم من محبته.
ـ يا للطمع!.. هذا كثير.. كثير..
ـ ربع درهم إذن؟.
ـ تواضع.. تواضع..
ـ مثقال ذرة من محبته.
ـ لاتطيق مثقال ذرة منها.
ـ نصف ذرة إذن؟
ـ ربما..
ورفع الناسك رأسه إلى السماء وقال:
ـ يا رب.. ارزقه نصف ذرة من محبتك!.
وقام الرجل وانصرف.. ومرت الأيام.. وإذا أسرة الرجل وطفله وأصحابه يأتون إلى الناسك ويفضون إليه بأن الرجل لم يعد إلى منزله وأهله منذ تركه، وأنه اختفى ولايدرى أحد مكانه.. فنهض معهم الناسك قلقا، ولبثوا يبحثون عنه زمنا إلى أن صادفوا جماعة من الرعاة قالوا لهم: إن الرجل جن وذهب إلى الجبال ودلوهم على مكانه.. فمضوا إليه فوجدوه قائما على صخرة.. شاخصا ببصره إلى السماء فسلموا عليه فلم يرد السلام.. فتقدم الناسك إليه قائلا:
ـ انتبه إلىّ.. أنا الناسك.. فلم يتحرك الرجل، فتقدم إليه طفله جزعا، وقال بصوته الصغير الحنون:
ـ يا أبت.. ألا تعرفنى؟
فلم يبد حراكا.. وصاحت أسرته وذووه من حوله محاولين إيقاظه، ولكن الناسك هز رأسه قانطا وقال لهم:
ـ لاجدوى!.. كيف يسمع كلام الآدميين من كان فى قلبه مقدار نصف ذرة من محبة الله!؟.. والله لو قطعتموه بالمنشار لما علم بذلك!..
وأخذ الطفل يصيح ويقول:
ـ الذنب ذنبى.. أنا الذى سألته أن يرنى الله!..
فالتفت إليه الناسك وقال وكأنه يخاطب نفسه:
ـ أرأيت؟ إن نصف ذرة من نور الله تكفى لتحطيم تركيبنا الآدمى وإتلاف جهازنا العقلى!.
رابط دائم: