رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

الإسلام السياسى ونخبه المستترة

ربما لم تكن من كارثة حلت على عالمنا العربى أكثر من الحضور السياسى للجماعات الدينية التى خلقت سياقا قديما وقمعيا وكسيحا فى الوقت نفسه، بحيث صارت التصورات الماضوية التى صاغتها جماعات الإسلام السياسى على تعددها وتنوعها الهدام قرينة لكل ما هو رجعى، ودموى، ومتعصب.

وتكشف الأوهام التى انبنت عليها الأفكار الحاكمة للجماعات الدينية عن عمق الكارثة حقا، بدءا من الاعتقاد المطلق بامتلاك الحقيقة، بوصفهم ينطقون بمراد الله، فهم وكلاء السماء كما يزعمون، وهم وحدهم المؤمنون حقا كما يعتقدون، فأصبحنا أمام واقع كهنوتى تخلقه الممارسة العصابية لهذه الجماعات الدينية وغيرها، ومرورا بالاستعلاء المتسلط على أصحاب العقائد والأديان الأخري، وينسحب هذا على النظر إلى الغرب مثلا، الذين ليس فى عرفهم سوى قطاع كافر سخره الله لهم ليكشف لأتباعهم عن المنجزات العلمية والتكنولوجية الحديثة!، وصولا إلى حتمية الاستيلاء على الحكم عبر السلاح، وتساق المبررات الأكثر لغطا فى هذا السياق على نحو الادعاء بالتشبث بفكرة الخلافة الإسلامية الوهمية، التى لا تنتمى لزماننا، فتبدو فكرة عبثية بامتياز، ويصبح النفخ فيها دفعا إلى عصور غابرة من الاقتتال بين الدول والشعوب والأمم المختلفة.

وبينما تتحرك القيادات الفاعلة فى جماعات القتل باسم المقدس بوصفها عرائس ماريونيت فى يد أجهزة استخباراتية عالمية احترفت نسج العلاقة الآثمة بين الرجعية وقوى الاستعمار الجديد، فصارت القوى الدينية بمثابة مخلب قط لقوى الهيمنة على العالم، تبدو فى الوقت نفسه الجماهير غضة الوعى المؤمنة بخطابات القتل والتكفير وكأنها مساقة إلى خيار جهنمى تتحول معه الجماعات الدينية العصابية إلى أوطان جاهزة لا تعرف سوى القتلة، والخونة، وبائعى الضمائر.

وربما الأدوات الكلاسيكية فى التعاطى مع جماعات الخراب دورا فى تمددها فى لحظات متباينة من عمر الأمة المصرية وعالمنا العربي، فمحاولات الاحتواء والاستيعاب والاعتقاد بأن كل شيء قابل للسيطرة عليه فى أى لحظة، مع ترك الفضاء العام ليشغلوه بما يشاءون، على نحو ما حدث فى الأعوام الأربعين الأخيرة التى استشرت فيها الجماعات الدينية المختلفة، خاصة الإخوان والسلفيين، فاخترقوا الواقع الاجتماعى للمصريين، فى ظل التراجع المخزى للدور الاجتماعى للدولة بفعل ترهلها السياسى من جهة، وعدم إدراكها خطورة ما جرى من جهة ثانية، فأضحت كل هذه الأشياء مضربا للفشل، ونموذجا لإخفاق الدولة فى التعامل مع هذه الجماعات الفاشية.

واكتملت حالة العجز العام عبر سيطرة خطاب التطرف الذى أشاع مناخات من الكراهية والتعصب والجمود الفكري، ولم يكن الخطاب الثقافى الرسمى قادرا على مجابهة الأسلفة العقلية التى جرت على مرأى ومسمع من الجميع، واكتفى - ولا يزال- بالمهرجانات الصاخبة والعبث الكرنفالى المسيطر على أدمغة موظفيه الكبار فى فهمهم لمعنى الثقافة وجوهرها وجدواها، وصراعها الجذرى مع خطاب الانغلاق والكراهية، ودفاعها المبدئى عن الحريات، لقد بدا كل شىء مهيأ لتغول اجتماعى/ ثقافى لجماعات الإسلام السياسى داخل المجتمع المصرى، وأغلقت الدائرة قوسها فى لحظة الصعود السياسى لهم لحكم البلاد عبر ممثل الجماعة الإرهابية وإخوانه.

إن الغطاء السياسى الذى تقدمه جماعات من النخبة المصرية على تنوعها واختلافها لجماعات الإسلام السياسى ودفاعها الظاهرى والخفى عن حتمية وجودها وتمثيلها فى المشهد السياسى المصرى، وكأنها قدر لا فكاك منه!، إنما يكشف عن أحد أكثر الأمراض سوءا التى ابتليت بها الأمة المصرية، وأعنى مرض النخبة وضعفها وتهافتها، بعد أن تآكل معناها وضمرت قيمتها، وأصبحت فى معظمها خارج اللحظة والتاريخ.

وإذا كان ثمة متثاقفون يمثلون النخبة الظاهرة لجماعات الإسلام السياسي، فإن ثمة متثاقفين آخرين لا يقلون بؤسا عن هؤلاء الرجعيين، وإن فاق خطرهم النموذج المعلن، لأنهم يملكون رطانا مختلفا نسبيا، ويقدمون أنفسهم بوصفهم ليبراليين بامتياز، هؤلاء هم أذناب العولمة الأمريكية، وإحدى أدواتها، وتتحقق الدهشة حين تجد من يتقنون أعتى أطروحات المادية الجدلية مثلا ثم تجدهم فى خندق اليمين الرجعى فى نهاية المطاف!!.

لقد حملت الثورة المصرية فى الخامس والعشرين من يناير، وفى الثلاثين من يونيو، وعدا بالمستقبل، وكانت الثورتان محاولة للإجابة العملية عن جملة من التساؤلات المربكة والضرورية فى ظل عالم يتداعى وينهار، غير أن الرطان الخادع الذى قدمته ولا تزال نخب رجعية، وأخرى متواطئة، عن القيم والمقولات الكبرى لم يكن أكثر من كلمات لم تغادر ألسنة قائليها للنفاذ فى الواقع الفعلى للمصريين، وبدأت الرهانات الكاذبة على مزيد من الجدل العقيم، وإيجاد اللجاجة اليومية التى طالت كل شىء، وأصبحنا أمام ارتزاق من نوع جديد لمحترفى الإنشاء واللغو والرطان المستمر، وهؤلاء جميعهم الظاهر منهم والمستتر ليسوا سوى آكلى لحوم أوطان، ومرتزقة يتم تأجيرهم لمن يدفع أكثر.

وبعد.. فإن التناقضات الفجة التى تكشف عنها جماعات الارتزاق عبر الرطان، وبعضها يرفع راية النضال بيد، بينما يغتال باليد الأخرى أنبل ما فى هذا الوطن، وبعضها يزايد ليلا ونهارا على الواقع وتفصيلاته المعقدة، ولا يتورع عن اللهاث خلف جميع المكاسب الممنوحة له من دم هذا الواقع وناسه، تنبيء هذه الحالات جميعها عن راهن تعس، نكبته الحقيقية فى نخبته، أو فى أنصاف وأرباع مثقفيه الذين رضوا بجهلهم وعجزهم، بينما أخذوا نصيبا وافرا من الترخص، والمزايدة، والتهافت المخزى الذى يليق بأزلام، ونخاسين، وحاملى حقائب.

لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله

رابط دائم: