رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

النهضة التونسية .. تحولات حسب المزاج الأمريكى

«أن تتستروا بالدين وتباشروا السياسة غير معقول لأنه يخل بتكافؤ الفرص، فأنا كسياسى لا أستطيع أن أهاجم جماعة تنادى بشعارات دينية سامية وإلا سأكون محل استنكار الرأى العام»، وكان رد مؤسس الإخوان على فؤاد باشا سراج الدين : «لا نفكر بالعمل السياسى ونحن رجال دين ورجال فكر دينى فقط » !

بهذه البساطة تم فصل الحزبى عن الدعوى منذ النشأة، فهل تحقق فعلياً؟ لا بالطبع فالإخوان كانوا ولا يزالون مستمتعين بالانخراط فى المباريات السياسية وحيلها غير المشروعة وبلجوء هذا الطرف للجماعة لضرب ذاك أو إضعافه، لتتاح لهم بين الحين والآخر فرص تحصيل القوة والسعى للانفراد بطرح أنفسهم كبديل منذ مارس 1946م إلى اليوم، والقضية ظلت محكومة بالمتغيرات على الساحة وتوظيف المتناقضات وليس بالقناعات الفكرية كما قال هيوارث دان «إن الجماعة عندما تواجه حكومة قوية تقصر نشاطها على الدين، وتتحول إلى السياسة أمام الحكومات الضعيفة»، ومع إظهار التحول للسياسة لا تتخلى أبداً عن خطابها وشعاراتها الدينية لإدراكها أنها إن فعلت ذلك فقدت المساحة التى تمكنها من امتلاك الأفضلية والجاذبية الجماهيرية وصارت مثل أى حزب عادى، فضلاً عن الحرص على إرضاء جماهير التيار الإسلامى المشبعة بقناعات أستاذية العالم ورفض التعايش مع الآخر واحتكار السلطة للأبد، والمدهش حديث الغنوشى مع اللوموند بعد المؤتمر الأخير وخطابه المعاكس له الموجه لجماهير حركته، فقد قام البنا بالشئ ذاته قبل عقود طويلة وكان الحديث لنفس الصحيفة.

الملف إذنً عفا عليه الزمن وإذا اكتفينا بالنظر من زاوية المراجعات الفكرية فقط وكون الغنوشى يواصل طرح الرؤى النقدية لحركته فنحن ننظر إلى بعد واحد للعبة ثلاثية الأبعاد، ونسمح للرجل أن يتلاعب بنا مع تقديرنا لفكره، فهو شاء أم أبى رجل سياسة ماكر وجزء من لعبة سياسية أبعد من حدود بلده ومن حدود الإقليم، وهو يتعامل معها بأدواتها ومقتضياتها، وإذا كنا احترمنا البعد الفكرى فى طرحه الأخير بالرغم من أنه قديم ومتداول فالأبعاد الأخرى فى نظرى أهم لكونها هى الدافع الأساسى الآن .

الشيخ راشد الغنوشى كرر هذا الطرح فى مراحل مختلفة، وخلالها كان نشطاً وفاعلاً فى التنظيم الدولى، بل فى ذروة العنف الإخوانى فى مصر وسوريا لم يعلن هذا الفراق الذى أعلنه اليوم مما يدفعنا للبحث عن المغزى الحقيقى بعيداً عن نغمة الإصلاح الفكرى.

فى 2011م أكد فى خطاب شهير أنه لا يوجد تعارض بين الإسلامية والعلمانية وطرح قضية الفصل بين الدينى والحزبى، وقرار تحويل الحركة إلى حزب سبق إتخاذه فى فبراير 1989م وتم تغيير الاسم من «حركة الاتجاه الإسلامى» إلى «حركة النهضة»، ومع عودته إلى تونس صرح أمام الصحفيين: «لا أحلم بأى منصب فى أى مستوى والإسلام ليس ملكاً لحركة النهضة»، إذنً ما هو الجديد فى الموقف الأخير حيث بدا وكأنه يقدم «خمراً عتيقة فى قنانى جديدة »؟

أولاً : الانفصال فى حقيقته ليس عن جماعة محلية إنما عن الجماعة الأم وعن التنظيم الدولى، وهذا واضح من حديثه عن الوطنية وتقديم مصلحة تونس، ويأتى منطقياً على خلفية الانقسام فى التنظيم الدولى للإخوان وعلى إثره تمت إقالة ثمانية من كبار القادة، وبينما يذهب الصقور خلف المسار الأردوغانى الجديد بترسيخ إمبراطورية إسلامية مقرها تركيا بزعامة أردوغان يخوض بها حروبه فى سوريا ومنافسة إيران والصراع مع روسيا والحرب مع الأكراد وأخيراً الخلاف الطارئ مع الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة، يذهب من يتقمصون اليوم أدوار الحمائم إلى التهدئة ومحاولات العودة بخطاب وأداء منحاز للمشاريع الوطنية والشراكة.

ثانياً: الأحداث الموثقة تشير إلى مكانة ودور الغنوشى فى «عملية» التغيير العربى بالتعاون مع الجامعات والمراكز البحثية الغربية برعاية أمريكية قبل وأثناء الثورات ، وكانت الرؤية هى التجهيز لـ«مرحلة ما بعد الإخوان المسلمين» بحسب وصف عزمى بشارة الذى طالب الإخوان بالتحول لأحزاب ديمقراطية بمرجعية إسلامية على غرار الأحزاب المسيحية فى الغرب، وهنا يسعى الغنوشى لإنجاح المشروع فى نسخته التونسية بعدما أفشله أردوغان فى تركيا، وفى حين يتقلص الحضور الحزبى والوطنى والحس التوافقى الإصلاحى فى اتجاه ترسيخ الأممية والشمولية الإقصائية بجهود أردوغان وإخوان مصر، يظهر الغنوشى الذى طالما إدعى الفضل لمساهماته الفكرية بشأن نجاحات انطلاقة التجربة التركية فى دور المنقذ الذى يحاول إستعادة النموذج ممن خربوه فى توقيت مدروس.

ثالثاً: من مصلحة الولايات المتحدة والغرب الآن تصعيد الغنوشى لمنافسة أردوغان وإضعاف سيطرته على الحالة الإخوانية والإسلامية عموماً، فأردوغان شأنه شأن من تحالف مع أمريكا من زعماء الجماعات يخرج مؤخراً عن حدود الدور المرسوم له ويقاوم التوجهات الأمريكية الأخيرة التى أعطت الأفضلية الميدانية والتفاوضية لمحور إيران – روسيا، فضلاً عن الخلافات مع الاتحاد الأوروبى وأمريكا بشأن قضايا المنطقة الآمنة والأكراد والإرهاب واللاجئين والرؤية النهائية للحل فى سوريا، ولذلك يلجأون لاستهداف أقوى تحصيناته وهى زعامته للإسلاميين العرب .

رابعاً: نقرأ ذلك أيضاً فى خطابه الأخير فى المؤتمر العاشر للنهضة الذى لم يحضره للمرة الأولى أى ممثل عن إخوان مصر، وفيه يلتزم الغنوشى تماماً بالرؤية الأمريكية للأحداث والتصور الغربى لملفات المنطقة العربية، وفى هذا المؤتمر أدخلت الحركة تعديلاً يسمح لزعيمها بالترشح لكل المناصب السياسية فى الدولة بما فيها رئاسة الجمهورية ورئاسة مجلس النواب، وبينما يتم تجهيز الغنوشى لزعامة إسلامية بالمقاييس الغربية، يتماهى أردوغان شيئاً فشيئاً مع النموذج الأفغانى فيبدو وكأنه الملا عمر بزى إفرنجى، بل حتى طالبان لم تكن على دراية بما تمارسه القاعدة من أنشطة عدائية موجهة للخارج، أما أردوغان فهو من يحرك ويوجه، وأدرك راشد بحسه قرب السقوط فسارع بالانفصال، ليطرح النموذج البديل بقشرة إصلاحية لكن جوهره إعادة الحليف الإسلامى للحضن الأمريكى من نافذة زعيم آخر.

لمزيد من مقالات هشام النجار

رابط دائم: