رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

النكبة والنضال وغسان كنفانى

بدا الصراع العربى ــ الإسرائيلى حاضرا وبقوة فى متن الإبداع العربي، بحيث أصبح التعبير الجمالى عن قضية العرب المركزية شكلا من شكول المقاومة ضد المحتل الصهيوني، وتبدو ذكرى النكبة من كل عام تعبيرا جليا عن أعلى درجات القمع والنفى والتشريد التى طالت العرب والفلسطينيين على يد العصابات الصهيونية، وبحيث يبدو الخامس عشر من مايو 1948 تاريخا مأسويا فى الذاكرة الجمعية العربية والإنسانية على نحو سواء.

وربما يمثل المبدع الفلسطينى العربى الراحل غسان كنفانى التجلى الأكثر وهجا لفكرة المقاومة عبر الكتابة، وبما يعنى أن استعادة غسان كنفانى تبدو فى جوهرها استعادة لقيم المقاومة لواقع غاصب وعبثى ومستبد، تهيمن على فضائه العصابات الصهيونية من جهة، وتتحالف فيه قوى الرجعية والتخلف مع مراكز الاستعمار الجديدة من جهة ثانية، كما تبدو القراءة النقدية لأعمال غسان كنفانى الإبداعية قراءة للواقع الفلسطينى والعربى ذاته، لإحباطاته، وانكساراته، ومآسيه، لروحه المسكونة بالتمرد، والمقاومة، المشغولة بمساءلة الواقع وكشف زيفه وتعريته، باستعادة التأثير النافذ للكلمة بوصفها أداة أصيلة من أدوات الرفض والمقاومة، وفى استعادة الكلمة استعادة لكل معانى النضال النبيل.

تتأسس فكرة أدب المقاومة على استعادة فاعلية النص بوصفه قادرا على النفاذ إلى سيكولوجية المتلقي، ومشغولا بالمقولات الكبرى، وتصبح قيم النضال والمقاومة بمنزلة المستوى المسيطر على النص، أو ما نسميه فى النقد الأدبى البنية المهيمنة Dominant Structure على فضاءات الكتابة الأدبية.

هنا وعبر هذا الفهم نرى غسان كنفاني، العائد إلى حيفا، والراصد لرجال فى الشمس، والمرابط فى أرض البرتقال الحزين، والهامس إلينا بآخر ما تبقى لنا، والحامل نبوءة أم سعد وروحها الممزقة، هنا يوجد غسان كنفانى المشغول بناسه، والمدافع عنهم، عن ذاكرتهم الجمعية، عن ماضيهم وراهنهم المنهك بمآلات من القمع والقتل والاستبداد.

فى روايته الفاتنة »رجال فى الشمس« ثمة رجال ثلاثة يهربون من الموت إلى الموت، من القسوة المفرطة للحياة فى المخيمات والأمكنة القامعة، إلى سجن عبثى فى سيارة لنقل المياه، قديمة ومتهالكة، يقودها العنين الانتهازى »أبوالخيزران« هى رحلة إلى الموت إذن تكشف عن تلك الذاكرة المثقوبة، وتحول بوصلة الحلم من استعادة الأرض/ فلسطين، لمحض البقاء خارجها، من اندثار الهم العام وتواريه لصالح الهم الشخصى وحضوره الانتهازى الطامع، لكن شخوص الرواية جميعهم »مروان/ أبوقيس/ أسعد« يظلون محض تعبير عن المأساة الجمعية لوطن غارق فى التناقضات والهزائم المجانية، فتصبح الذات الفردية هنا تعبيرا عن ذات جماعية مأزومة ومهمشة، ومن ثم تظلل بنية الإخفاق العمل منذ المفتتح وحتى النهاية، مستعينا كاتبها الموهوب بتقنية المونولوج الداخلى للكشف عن النوازع النفسية للذات البشرية فى لحظات مأزومة وفارقة من حياتها، وحياتنا، كما نرى أيضا حضورا للمشهدية البصرية داخل الرواية، حيث ثمة صورة بصرية ضافية يمكن تخيلها تصاحب المتلقى وتدفعه للوقوف على حافة الفعل والمساءلة.

ويأخذ الشوط مدى أبعد فى عمله الإبداعي«ما تبقى لكم» والتى تنتقل من حيز السؤال إلى حيز الفعل ذاته، عبر أسرة فلسطينية تخرج من مدينتها يافا على يد العصابات الصهيونية، فتتعرض للاغتيال المعنوى والقتل الممنهج مرتين، مرة على يد عدوها المباشر، ومرة على يد الرجل المتواطىئ مع الاحتلال الإسرائيلى «زكريا» والمغتصب لمريم كما اغتصب الكيان الصهيونى فلسطين ذاتها، ويتوازى الفعلان السرديان ويتقاطعان حين تقتل مريم زكريا، وحين يثأر حامد من الجندى الإسرائيلى فى الآن نفسه.

وفى »أم سعد« يمد غسان كنفانى الشوط على استقامته، متوغلا أكثر فى النفس البشرية، فلا يقدمها من زاوية ملائكية، ولكن يقدمها بوصفها ابنة الضرورة الحياتية من جانب، والحلم المقاوم من جانب آخر، وبينهما يتحرك غسان فى مساحة إنسانية بالغة الرهافة والوعي، تصبح دائرتها المركزية «أم سعد» ويصبح الفدائى عنوانا على عالم يتحرك أيضا صوبه غسان فيقدمه لمتلقيه لا من زوايا المقولات السياسية المباشرة، ولكن من زاوية الفن الذى يقف على تخوم السياسى والجمالي، فيمتزج الأيديولوجى بالفني، ويشكلان معا جدارية عن النضال، والرفاق، والمقاومة، والمعنى النبيل لعالم يقف فى قلب الموت ليهب شعبه وأمته حياة ليست كالحياة، بل أبهى وأجمل.

ومن لحظة راهنة مسكونة بالتوتر والذكريات المؤلمة، حيث نكسة الصيف السابع والستين، يبدأ النص/ العودة، ثم يبدأ الارتحال الزمانى القلق إلى جذر المأساة فى عام المأساة 1948، عبر تفعيل آلية التذكر أو ما يعرف بتقنية الاسترجاع أو الفلاش باك، فيستعيد سعيد وصفية معا حيفا التى كانت، والإجرام البربرى الصهيونى فى حق العرب، وتتأزم الحلقات السردية منذ البداية حين تسطو الأسرة الصهوينة على »خلدون« الابن، وتحيله بحكم النشأة والتربية إلى جندى فى جيش الأعداء، وتمنحه اسما ورسما جديدين، وفى محاولة استعادته ينهار كل شيء، ولا يبقى سوى استعادة أمل جديد عبر قربان آخر تقدمه الأسرة راضية ممثلا فى ابنها الآخر المقاوم للاحتلال.

أما فى نصوص غسان كنفانى القصصية، من قبيل: «أرض البرتقال الحزين» فإن المعنى السياسى المباشر يأخذ حضورا أكثر بروزا، وتبدو المأساة موزعة على صور جزئية، تتشارك جميعها فى رسم المشهد العام بقتامته وبؤسه، وفى كل يبقى المبدع الفلسطينى الراحل غسان كنفانى أحد أهم الكتاب العرب الذين منحوا النص الحامل للمقولات الكبرى أبعادا فنية ضافية، حيث قرب النضال لمتلقيه من زوايا إنسانية رهيفة، منحت نصه ومنحته خلودا فى متن الكتابة والمقاومة والقيم الإنسانية النبيلة فى عالمنا المعاصر.

لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله

رابط دائم: