رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

معركة العقل فى المنيا!

كنت أمازح أصدقائى لسنوات طويلة أن أحد أهم أضلاع التنوير فى مصر قد خرجت من مثلث لا يتجاوز طول ضلعه 20 كليومتراً وأقصد بالمثلث ثلاث شخصيات قدمت خدمات جليلة للعقل المصرى قبل أكثر من مائة عام وهم الدكتور طه حسين (المولود فى عزبة الكيلو على أطراف مدينة مغاغة عام 1889) والشيخ الجليل على عبدالرازق ( المولود فى قرية أبوجرج بمركز بنى مزار عام 1888) والدكتور لويس عوض ( المولود فى قرية شارونة بمغاغة عام 1915) وكنت أقول للأصدقاء إن محافظة المنيا لها نصيب معتبر فى عملية تنوير «منقوصة» وكنا نتأمل ونضحك ونمنى أنفسنا أن يخرج من جديد مفكرون ومثقفون كبار بوزن الثلاثة السابقين يكملون مسيرتهم. فلم تكن مصادفة أن يخرج الثلاثة العظام المثيرون للجدل والمحرضون على التفكير فى توقيت متقارب من قرى مدينتين فى المنيا، فقد كان الثلاثة نتاج مرحلة حاولت نقل مصر من حالة تخلف الى حداثة تواكبها رغبة فى الاندماج فى علاقة تفاعلية جيدة مع العالم الخارجي. كانت شخصيات طه حسين وعلى عبد الرازق ولويس عوض شخصيات محرضة على التفكير والادراك لقيمة العقل فيما صادفوا أزمات كثيرة من وراء انتاجهم الفكري، ولم يبق من انتاجهم فى مسقط رأسهم- المنيا- سوى سطور قليلة فى كتب التاريخ أو الأدب دون أن يكون لسيرتهم حضور أفضل فى محل الميلاد.. وكما لو كانوا قد مروا مرورا عابراً من هناك!

---

بعد مائة عام من ميلاد الشيخ على عبد الرازق، كان كاتب السطور يجلس على مقعد فى مدرسة بنى مزار الثانوية بنين وبجوارى صديق اعلامى معروف اليوم وكانت الجماعات الدينية فى أوج حضورها فى المشهد بعد اغتيال الرئيس أنور السادات ومر علينا جيل من المدرسين بعضهم من العائدين من أفغانستان والبعض من اعارات خليجية وقد تبدلت الأحوال وأصبح لهؤلاء سطوة وكلمة فوق كلمة ادارة المدرسة وكان أحدهم يدرس اللغة الفرنسية ويرتدى زيا باكستانيا (!) لم يكن مألوفا فى حينه الا أنه تحول الى لباس معتاد فيما بعد ولم يكن المدرس سوى حالة نقيضة للسطور الأولى من المقال هنا. يسب المخالفين فى الدين بلا رحمة وينظر بغضب شديد الى من يجلس الى جوار مسيحى ويعنف الطلبة المسلمين بشدة على تسامحهم والتهاون فى حق دينهم(!)، فى المقابل، كانت غالبية تقابل كلام الرجل بتجاهل يليق به ويرون أنه لا يمثل ما تربينا عليه وليس ما تعلمه أمثاله فى معسكرات التطرف. وكان المشهد فى طابور الصباح مؤلما وقاسيا على جيل صغير لا يعرف ما يجرى حوله. مدرسون يشيحون بوجوههم عن تحية العلم ثم تطور الأمر الى المرور وسط الطوابير لاسكات الطلبة ومنعهم من ترديد النشيد الوطنى عنوة ثم افتعال مشاجرات بين الطلبة لتمرير رسائل بعينها أن تلك الجماعات هى من تحكم، ليس فقط المدرسة الثانوية ولكن المدينة لو أمكن، وكان بيننا الأستاذ أحمد مدرس الدراسات الاجتماعية صوتا متفردا فى حب الوطن ونشر قيم التنوير وتحذيره المستمر لطلبته من السقوط فى قبضة المتطرفين أو المساهمة فى نشر جهلهم. فى كل ما سبق، كانت أطراف مسئولة فى الدولة ترى المشهد، عياناً بياناً، ولا تحرك ساكناً ولا ترى غضاضة فيما يفعله نفر منا حملوا أفكارا ظلامية وراحوا ينشرونها بلا تردد فى حماية الصمت أو التواطؤ(!).

----

ما وصلنا اليه فى حادثة أبوقرقاص هى حصيلة نشر التعصب والجهل فى دور العلم والتربية على مدى عقود غابت فيها رؤية الدولة وسلطتها وفيما كان عامة الناس لا حول لهم ولا قوة فى مواجهة موجات متتالية من المتطرفين تزداد شراستها كلما تجاهلت الدولة مواجهتهم وكلما تسامح قادة المجتمع، من رموز وعائلات وقادة رأي، مع أفعالهم الهدامة وهو بدوره أسهم فى ظهور جيل من عامة الناس يبدى مشاعر سلبية تجاه الفكر المتطرف ولكنه لا يعرف كيف يقاومها ولا يكترث بأفعاله لأنه يرى انسحابا عاما فى مواجهة تلك الأفكار ولا يرى المؤسسات جادة فى المقاومة أو الرفض.

لم يكن مثلث التنوير يظهر فى المحافظة نفسها قبل أكثر من 100 عام ما لم يكن التعليم يسمح لتلك الشخصيات العظيمة فى تاريخنا المعاصر بأن تعمل عقلها وأن تتحدى بعض الأفكار القائمة وهو المكسب الحقيقى فى تلك الفترة حيث دشن التعليم فى مرحلة محمد على باشا ومن جاءوا بعده أساسا كان يمكن البناء عليه وصولا الى بناء مجتمع يفكر ويستوعب القيم المدنية ويحترم الاختلاف لكن ما جرى أن عقودا من التجاهل والصمت قدمت لنا صنوفا عجيبة من الأفكار الشاذة التى وصلت بنا الى تبنى قلة لمنهج السحل والتعرية للمخالفين باعتباره عقاباً ملائماً يحقق لمن يحملون تلك الأفكار قدرا من الطمأنينة أن ما يحشرونه فى رءوسهم لا يذهب هباءً ولن يضيع دون ثمن(!)

-----

أفضل ما يمكن فعله فى الساحة الخالية للأفكار الظلامية أن نعيد الاعتبار لكل صاحب فكر وقلم خرج من قرى ونجوع ومدن المنيا وأن نبدأ بهم لعلهم يكونون عوناً يدعم أى مبادرة جادة من المؤسسات الرسمية وحتى يعرف البعض من ضحايا الاهمال والتجاهل والتعليم المتردى أن التحريض على التفكير ليس جريمة وأن التنوع سمة من سمات المجتمعات التى تريد أن تبنى مستقبلا مختلفا وهو جوهر ما نطق به دعاة التنوير من أبناء المنيا قبل مائة عام أو أكثر.

[email protected]
لمزيد من مقالات عزت ابراهيم

رابط دائم: