لنعترف ابتداء بأن ما حدث فى نقابة الصحافيين مساء أول مايو لن يكون الحادث الأخير لأن أسبابه قائمةٌ وقابلةٌ للتكرار. وما لم نعالج هذه الأسباب سيظل الاحتقان السياسى سائداً، وسيبقى الالتباس القانونى مستمراً حول الحرية وضوابطها. تدور هذه الأسباب كلها حول ما يمكن تسميته بمعضلة الأمن والحرية، تلك المعضلة التى لم ننجح حتى الآن فى التوفيق بين شقيها.
لدينا إذن ( قضية ) تتحدد وقائعها بما جرى مساء أول مايو بالقبض على الصحفيّين عمرو بدر ومحمود السقا فى عقر دار نقابة الصحفيين فى سابقة هى الأولى كما يقول أصحاب المهنة منذ تاريخ إنشاء النقابة فى عام 1941. لكن وراء هذه القضية ( مأزق ) سياسى وقانونى تتعدد مظاهره وتزداد إفرازاته. المأزق القانونى هو ما يهمنى فى هذا المقال. أما القضية فيتعين معالجتها سريعاً بل فوراً قبل أن تصبح مثل كرة الجليد التى تكبر كلما تدحرجت فى طريقها للسقوط، أو قبل أن تصبح مثل كرة النار المشتعلة التى يحاول كل طرف التخلص منها بإلقائها لدى طرف آخر يتحمل مسؤولية إطفائها.
ترى السلطة أن ( دخول ) نقابة الصحفيين إجراء مشروع لأنه تم بهدف تعقب أشخاص مطلوب القبض عليهم ولم يكن غرضه تفتيش النقابة وهو المحظور قانوناً. التخريج القانونى السابق قد يبدو صحيحاً بالمفهوم القانونى الشكلي، وهو حكم أقرته بالفعل محكمة النقض ويؤيده أغلبية الفقه وإن لم يستند إلى نص قانونى صريح. أما الصحفيون فيرون أن ( اقتحام ) النقابة موصوم بعدم المشروعية القانونية وعدم الملاءمة السياسية. فالاقتحام إجراء غير مشروع لأن قانون نقابة الصحفيين يحظر فى المادة 70 تفتيش مقر النقابة أو وضع أختام عليها إلا بمعرفة أحد أعضاء النيابة العامة وبحضور نقيب الصحفيين أو من يمثلهما، وهو الأمر الذى لم يحدث خصوصاً فيما يتعلق بحضور ممثل عن النقابة. أما عن عدم الملاءمة السياسية فلأن نقابة الصحفيين تمثل رمزية لحريات الرأى والتعبير.
وسواء سمينا ما حدث بأنه ( دخول ) للنقابة على يد ستة أشخاص وفقاً للرؤية الأمنية أم أنه ( اقتحام ) قام به نحو ثلاثين من رجال الأمن بحسب رواية نقابة الصحفيين فالحقيقة هى أن ماحدث بالطريقة والتوقيت لم يكن بالمرة تصرفاً ملائماً. فمن حيث طريقة التنفيذ كان يمكن فى أسوأ الفروض الانتظار حتى يخرج الصحفيان من دار النقابة مهما طال الانتظار. فلكم تبدو العدالة فى بلادنا بطيئة وصبورة وطويلة البال لكنها سرعان ما تنشط وتسهر وتزور الناس فجراً حينما يتعلق الأمر بملاحقة فكرةٍ أو رأي. وبحسب التوقيت فقد بدا غير ملائم بالمرة أن يتم القبض على الصحفيين فى دار نقابتهم عشية الاحتفال باليوم العالمى للصحافة. فأى توقيت هذا ؟! يعترض البعض على إقحام فكرة الملاءمة لكونها توحى بأن الصحفيين شريحة تميز نفسها عن سائر البشر بالمخالفة لمبدأ المساواة. وهذا بالطبع اعتقاد مغلوط لأن الصحفى إذا ارتكب جريمة عادية مثل القتل او السرقة أو الاحتيال أو الاغتصاب فهو يحاسب وفقاً لنفس الاحكام والاجراءات التى تطبق على الجميع. أما ما يقع منه من تجاوزات بمناسبة ممارسته لحريات الرآى والتعبير التى لا تنفصل عضوياً ولا وظيفياً ولا غائياً عن عمله المهنى فهذه تسمى بجرائم الرأى أو الفكر. وهذه الجرائم بالنظر لخصوصيتها تنفرد بأحكام خاصة موضوعية وإجرائية فى كل تشريعات العالم. بل إن التحضر التشريعى والتطور السياسى فى بلد ما يقاس بكيفية المعالجة القانونية لهذه التجاوزات / الجرائم.
السؤال الآن عن ( المأزق ) القانونى الذى أفرز هذه القضية ، وربما يفرز غيرهامن القضايا لنظل نراوح مكاننا منشغلين مأخوذين ( بالنتائج ) غير عابئين او مهمومين ( بالأسباب ).
الواقع يكشف أن لدينا مأزقاً يمكن تسميته بمعضلة أو إشكالية الأمن والحرية التى يتعين علينا التوفيق بين شقيها. فض هذه الإشكالية يحتاج إلى تفكيك عناصر المعادلة. لنبدأ بالاعتراف بأن الأمن ليس فقط سلطة قهر وإكراه لفرض النظام والاستقرار لكنه حق من حقوق المجتمع ، وهو بهذه الصفة حق أصيل من حقوق الإنسان باعتبار أن المجتمع يتكون فى النهاية من عدد من الأفراد. أزيد فأقول إنه بدون الأمن وبالتالى بدون فرض النظام الاستقرار لا يمكن كفالة وحماية حقوق الإنسان الأخري. لكن المجتمعات المتقدمة الحديثة استقرت منذ زمن على أنه لا يمكن تحقيق الأمن بإهدار حقوق وحريات الإنسان، لأن الانتهاكات التى تلحق هذه الحقوق والحريات قد تؤدى بفعل انتشارها وجسامتها إلى تهديد الأمن ذاته بحكم ما تغرسه فى نفوس البشر من الشعور بالمهانة والظلم ، وهذه شرارات التمرد ونذر الثورات. إذا فشلنا إذن فى حل إشكالية الأمن والحرية فإننا سنظل ندور فى حلقة مفرَّغة حركتها كالتالى : يقوم الأمن بوظيفة السياسة / فينوء الأمن بالأعباء / فيمارس القمع / فيحدث التمرد / فيثور الناس لانتزاع حرياتهم / فيقع الانفلات / فتسود الفوضى / فنستدعى الأمن / فيمارس القمع / فيحدث التمرد / ...... وهكذا نعود فى كل مرة إلى بداية الدائرة المفرّغة من جديد.
فى الدول المتقدمة والمجتمعات الحديثة تمضى الأمور على نحو آخر تماماً. فهناك حقوق وواجبات وأُطر وآليات لتنظيم وإدارة الحياة السياسية. تتم معالجة إشكالية الأمن والحرية على أرضية دولة القانون وبالاحتكام إلى ما تقرره من مبادئ وحريات وضوابط يخضع لها الجميع، ويقصد بالجميع الدولة والأفراد. بالطبع قد تواجه الدولة، أى دولة، ما يهدد أمنها المجتمعى الداخلي، وربما أمنها القومى ( بالمعنى الاستراتيجى ) نتيجة للتجاوزات المحتملة أثناء ممارسة حريات الرأى والفكر والتعبير. هنا يتجلّى الجوهر الحقيقى لدولة القانون لأن التجاوزات توجب المساءلة لكنها لا تبرر التعميمات وبالتالى تصادر الحقوق والحريات. ما العمل إذن حينما تسفر ممارسة حريات الرأى والتعبير عن تجاوز ما ؟
تدلنا الخبرة التاريخية بل والخبرة المعاصرة فى الدول الناجحة أن هناك نوعين من التجاوزات. هناك أولاً التجاوز الذى يمثل ضرياً من ضروب الشطط أو الزلل أو الحماقة فى الرأى والتعبير . هذا التجاوز ينصب غالباً على سياسات الحكومة أو أشخاص الرؤساء والمسؤولين ، لكنه لا يرقى إلى حد تهديد مقوِّمات الدولة أو تعريض أمنها القومى للخطر. هذا النوع من التجاوز تتسامح فيه ( دولة السياسة ) ولو أنه قد يشكّل جريمة بمفهوم ( دولة القانون ). ولهذا يتسامح المسؤولون فى دول الديموقراطيات الغربية مثلاً فى مواجهة السباب العلنى لهم فى الشوارع والرسوم الكاريكاتورية المسيئة والمحرّضة ضدهم وقد يصل الأمر الى إلقاء الطماطم أو البيض عليهم. كل هذه أفعال تمثل جرائم تبرر المساءلة الجنائية لكنهم لا يكترثون بها ويتسامحون فيها. صحيح أن دول الديموقراطيات الغربية لم تبلغ هذه الدرجة من التسامح السياسى فى مواجهة تجاوزات قانونية إلا بفضل ثقافة تكوّنت وتراكمت عبر زمن طويل، وهذا ما لم نصل إليه بعد فى المجتمع المصري. لكن المؤكد أننا نحتاج إلى التحلى بالتسامح السياسى فى مواجهة التجاوزات القانونية لحريات الرأى والتعبير ولو انطوت على درجة ما من الشطط أو الزلل أو الحماسة الزائدة أو حماقة التعبير. فكل هذه التجاوزات من اللوازم المكروهة لكن المحتملة لحريات الرأى والتعبير.
النوع الثانى من التجاوز فى ممارسة حريات الرأى والتعبير هو التجاوز الجسيم الذى يمثل إضراراً فعلياً إما بمقومات الدولة أو متطلبات أمنها القومى وإما بحقوق الأفراد الآخرين. نحن هنا أمام جرائم لا تبدو الدولة فيها ملزمة بالتسامح السياسى ولا يطلب من الأفراد المضارين كظم غيظهم فى مواجهة الاعتداء على سمعتهم أو شرفهم أو حرمة حياتهم الخاصة. لكن حتى فى هذه الحالة فإنه من الصعب معاملة الجانى كما يعامل القتلة واللصوص والمرتشون أو غيرهم من الجناة. المطلوب هنا بالنظر لطبيعة هذه النوعية من الجرائم التى تسمى بجرائم النشر، وهى بالمناسبة قد تقع من الأفراد العاديين مثلما تقع من الصحفيين، أن يكون الجزاء على شاكلة أخرى بعيداً عن الحبس والعقوبات أوالتدابير السالبة للحرية. وهناك مروحة واسعة لجزاءات شتى يمكن تطبيقها لا تخلو من الردع وقد تمثل معالجة للضرر الواقع أو ترضية المجنى عليه بأكثر مما تمثل عقوبة الحبس. لدينا الغرامات والتعويضات الرمزية ويمكن أن يكون لدينا أيضاً جزاء تقديم اعتذار مصحوب بالاعتراف بالتجاوز يتم نشره أيضاً ليكون الجزاء هنا من جنس الفعل. فنحن لا نستطيع أن نحبس فكرة أو نسجن رأياً لأن حبس الأفكار والآراء يزيدها تصميماً وانتشاراً وتعاطفاً وربما غضباً وشراسة. التوفيق المطلوب بين الأمن والحرية يستدعى إقامة التوازن بين متطلبات ممارسة حريات الرأى والتعبير المكفولة دستورياً وبين مقتضيات تجريم التجاوزات (الجسيمة) لهذه الممارسة. هذا يتطلب مراجعة شاملة وواعية لكل الترسانة التشريعية المتعلقة والتى تزخر بأكثر مما يجب من جرائم الفكر التى تستوعب جرائم النشر وغيرها من الجرائم. هذا الإسراف المبالغ فيه بشأن تجريم الفكر والرأى جعلنا نختزل خطورة البشر فى قيامهم بالتظاهر السلمي.. ثم اختزلنا تجريم التظاهر فى مجرد التحريض على القيام به.. ثم اختزلنا التحريض فى تجريم الأفكار والنوايا. مثل هذه الرؤية القانونية ليست فى صالح الوطن ولا السلطة ولا أشخاص الرؤساء والمسؤولين. ولنتذكر هنا مقولة جان جاك روسو العميقة بأن القوى لا يبقى دائماً على جانب كاف من القوة ما لم يحوّل قوته إلى حق وطاعته إلى واجب » .
نحتاج البوم إلى رؤية إصلاحية وشجاعة لمراجعة ظاهرة التشريعات التى تسرف فى تجريم الفكر والرأى بالمخالفة لكل أصول السياسة الجنائية الرشيدة. هذه التشريعات أصبحت تفتقد القيمة الإقناعية، ولهذا تطبق فى حالات ولا تطبق فى حالات أخري. حينما تُطبَّق فإنها تخلق الكثير من الأزمات، وحينما لا تُطبَّق ( وهو ما يحدث فى العديد من المظاهرات المؤيدة ) فإنها تثير التساؤلات والشكوك حول تطبيقها الإنتقائى واستهدافها قطاعاً من المصريين دون غيرهم.
فى نهاية المطاف ليس فقط بتطوير الترسانة التشريعية العقابية وحدها نعالج إشكالية الأمن والحرية. المطلوب أيضاً خلق أُطر وآليات للحوار بهدف بناء الثقة بين السلطة الأمنية وسلطة الدولة إجمالاً وبين جموع الصحفيين والكتّاب بل والمعارضون عموماً. فالحوار ضرورة لا يمكن تجاهلها لأنه بدون حوار ( منظم وهادف ومخلص ) سنصل إلى المعادلة الصفرية المكروهة، حيث يتصور كل طرف نجاحه فى تغييب أو تعطيل دور الطرف الثاني. وهذا أمر مستحيل ثم أنه آخر ما يحتاجه الوطن حالياً.
لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم رابط دائم: