رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رؤى نقدية
خمسين إبراهيم عيسى

أصدر الإعلامى الكبير إبراهيم عيسى سيرته الذاتية بعنوان "مشارف الخمسين: موجز عن حياة"، وذلك بمناسبة بلوغه

الخمسين من عمره. والسيرة الذاتية هى عمل أدبى أقرب إلى السرد الروائى، ولكن السرد فيها يعتمد على الحقيقة أكثر من المجاز، كما يحدث فى الرواية. والحقيقة أن السيرة الذاتية فن سردى قائم بذاته يتمتع بجمالياته الخاصة حتى وإن اشتبك مع السرد الروائى فى بعض جوانبه. ومن الواضح أن السيرة الذاتية ازدهرت فى العقود الأخيرة عالميا، ربما لأن المجتمع نفسه، وعلى مستوى أفراده فى حاجة إلى البوح الفردى أو استعادة الماضى ليصبح دافعا للانطلاق نحو المستقبل، ولذلك يتحدث دارسو السيرة الذاتية عن وظائف متعددة لها. أولاها معرفية، حيث تؤدى السيرة دور مرآة الوعى الذى تجتلى فيه الذات حضورها عبر الزمن وتاريخها الشخصى والعائلى والعام، خصوصا بعد أزمة حادة تواجهها الذات فتنقسم على نفسها لتغدو ذاتا وموضوعا فى آن، متأملة ماضيها فى مرآة وعيها كى تستمد القوة منه على مواجهة إحباطات الحاضر وكوارثه. ومثال ذلك أيام طه حسين التى كتبها، وهو فى السابعة والعشرين من عمره، بعد أن أحدث ثورة فى الفكر الأدبى أهاجت عليه الدنيا والناس إلى الدرجة التى تناثرت معها تهم الإلحاد ضده فى كل مكان. فما كان عليه فى مواجهة أزمة كتاب "فى الشعر الجاهلى" سنة 1926 إلا العودة إلى ماضيه كى يتأمل المصاعب التى عاناها وأنواع العوائق التى مر بها لا ليبكى على ما فات، وإنما ليستمد منه القوة على مواجهة حاضر محبط، والحلم بمستقبل أفضل. هكذا كانت "الأيام" التى كتبها طه حسين سنة 1927 نموذجا للدور المعرفى الذى تؤديه السيرة الذاتية لصاحبها.

ويمكن أن نضيف إلى هذا الدور المعرفى دورا نفسيا يتجلى فى تفريغ شحنات الانفعالات التى يمتلئ بها المرء بعد انتهاء مرحلة بعينها من مسيرته الناجحة فى الحياة، وهذا ما يحدث عادة فى سن الخمسين، حين تشعر الذات بأنها حققت إنجازا يرضيها إلى حد ما، ولكنه يملؤها بمشاعر مبهمة نحو المستقبل تريد أن تتأملها، فتستعيد صورا من ماضيها لتفسر بها ملامح حاضرها وطموحات مستقبلها فى آن. ومن هذا النوع ما كتبه صلاح عبد الصبور بعنوان "على مشارف الخمسين"، أو محمود الربيعى "فى الخمسين عرفت طريقى"، وتنضم إلى ذلك سيرة إبراهيم عيسى "مشارف الخمسين" التى يستعرض فيها على نحو موجز ملامح حياته الماضية فى نوع من البوح الذاتى لقارئ متخيل فى أثناء الكتابة، يريد الكاتب منه أن يشاركه بعض ما عاناه وما لقيه من خير أو شر، ومن فرح أو حزن، ومن إحباط أو تحقق آمال. ويختلف هذا النوع عن النمط الأخير من السير الذاتية، وهو نمط يؤدى وظيفة البوح قبل الرحيل، حيث تتوقف الذات بعد رحلة عمر طويل لتقدم كل ما مرت به لقارئ متخيل فى نوع من الاعتراف الذى يسترجع الماضى كله فى أسى شفيف. وقد أطلق زكى نجيب محمود على هذا النوع اسم "تغريدة البجعة"، وذلك لأن البجعة عندما تشعر بدنو أجلها تطلق غناء شجى الرجع مفعما بالأسى، كما لو كانت تودع حياتها الآفلة، حزينة على فراق عالمها الذى ألفته طويلا ومديدا. وعادة ما يكون هذا النوع من السير هو مذكرات الخبرة التى يتركها الكبار للأجيال القادمة، متيحين لهم خبرتهم الحياتية الاستثنائية لتكون منارة هادية لمن يريد أن يتفيأ ظلالها، أو يستمد عزمه من حضورها، هكذا كتب أحمد أمين أيامه عن حياته قبل وفاته ومع قرب النهاية، وكتب غيره من العرب وغير العرب. والبوح الحر قاسم مشترك فى كل هذه الأنواع، ولذلك يشبهها بعض المتخصصين فيها من النقاد الغربيين بأنها أشبه بأريكة الاعتراف أو البوح العفوى أمام المحلل النفسى، كما يشبهها آخرون بأنها أشبه بفعل الاعتراف الذى يقوم به المسيحى فى الكنيسة كى يتخلص من كل ما يؤرقه أو يثقل ضميره.

وليس هناك مواصفات خاصة للسيرة الذاتية فنيا ولا اتفاقا بين النقاد على شكل ثابت لها، وإذا كان واحد من كبار نقاد الرواية فى العالم قد وصفها بأن المعيار الوحيد للرواية هو أنه لا معيار، فالسيرة الذاتية ينطبق عليها الأمر نفسه بوصفها عملا سرديا، ولذلك فكاتبها حر فى معالجته للزمان والمكان، وهذا هو ما فعله إبراهيم عيسى الذى لم يسر فى الأطر التقليدية المعروفة لكتابة السير الذاتية، فهو لم يبدأ من نقطة الولادة ليمضى متتابعا عبر الزمن ليصل إلى نقطة النهاية أو عامه الخمسين، وإنما اختار طريقة أخرى هى إطلاق عفوية تيار الوعى، كى يتدفق مجراه فى نوع من التداعى الحر لتتابع المشاهد التى يتوقف عندها على امتداد خمسين عاما، وذلك فى مقاطع حرة أشبه بإضاءات أو مشاهد سينمائية تتتابع -عفو الخاطر- دون أن يحكمها منطق إلا منطق تيار الشعور المنساب لذاكرة أو توهج انفعالاتها المتناثرة بلا تتابع تاريخى خطى. ويبدو أن إبراهيم عيسى أفاد كثيرا من فن السينما، فالسيرة مشاهد سردية تهيمن عليها حاسة البصر، يسترجعها الكاتب كما لو كان يسترجع صورا متناثرة من حياته. أعنى أننا لا نمضى فى هذه السيرة من لحظة ولادته إلى أن أتم الخمسين من عمره المديد بإذن الله، وإنما ننتقل عبر مشاهد متنوعة لا تحافظ على الترتيب المنطقى للزمان مستبدلة بمنطق الحياة منطق الشعور وتدفق الانفعالات للذات التى تسترجع مسيرتها فى بوح ذاتى تهديه إلى الأب الذى ترك فى ابنه أكبر وأعظم الأثر، ولذلك يبدأ المشهد الأول من السيرة على النحو التالى: "كان أبى يستلقى على ظهره فوق السرير، وكان يضع ساقه اليمنى فوق ركبته اليسرى، ويمسك بالقصة مفتوحة على صدره ويقرؤها لى، كنت أصغر من أعرف القراءة أيامها، ما زلت أذكر المشهد ولا أذكر القصة. هل ما زال هناك آباء يقرؤون القصص لأطفالهم؟". ونلاحظ أن المشهد ينتهى بجملة ليست منه ولا تتصل بزمانه، وإنما تتصل بزمان الكتابة وبفعلها وإدراكها لواقعها الحاضر بالقياس إلى واقعها الذى مر عليه نصف قرن. وتأتى صيغة السؤال واصلة بين زمنين، زمن البداية وزمن النهاية، منطوية على مفارقة تجعلنا نتأمل مع الكاتب تغير أحوال الحاضر عن الماضى إلى حد بعيد، فنطرح على أنفسنا السؤال الذى تطرحه الذات فى السرد وهو يتصل بثقافة الأمة كلها: هل ما زال هناك آباء يقرؤون قصصا لأطفالهم؟ أم أن قسوة الحياة لم تعد تتيح للآباء أن يقرؤوا لأنفسهم، ناهيك عن أطفالهم. فاختلاف مصاعب الحياة المعاصرة وتعقيداتها التى تجعل الناس يندفعون نحو الخبز والمؤونة أو إلى نيل المكاسب لدرجة أنهم لا يجدون وقتا للقراءة التى تغذى عقولهم أو تفتح وجدان أطفالهم على عالم من نور القيم والمبادئ التى سوف تحميهم فى المستقبل. وهذه هى التقنية التى يتبعها إبراهيم عيسى فى أغلب المشاهد المستعادة من الماضى، فهى تقنية تعتمد على استرجاع مشهد يطول أو يقصر حسب السياق والموضوع مع جملة ختامية تحمل معنى المفارقة أو السؤال الذى يصل الماضى بالحاضر أو يجعلنا ننظر إلى الماضى الجميل فى ضوء حاضر تعيس.

هكذا تمضى مشاهد سيرة إبراهيم منتقلة ما بين ذكريات الأب الأزهرى المنفتح العقل وذكريات الأم الحبيبة الحنون التى يمكن أن نراها أما مصرية بمعنى الكلمة لا تتردد، فى الحنو على أبنائها ورعايتهم غير عابئة بقسوة الحياة أو المصاعب التى يمرون بها. فكل المصاعب تواجهها هذه الأسرة التى تنتمى إلى الطبقة المتوسطة بكل فضائلها النبيلة. والماضى فى هذه السيرة هو مجرة الزمن الذى تنسال تداعياته البصرية على ذاكرة إبراهيم فى أثناء فعل الكتابة بلا ترتيب منطقى ولا رابط سوى تداعيات المشاعر والتقلب العفوى للذاكرة التى تسلم نفسها لتيارات شعورها أو لا شعورها متدافعة بمشاهد الماضى الأثير. وهنا نأتى إلى الملحوظة الثانية من خصائص سيرة إبراهيم عيسى، وهى أن الطابع الغالب على هذه التداعيات هو طابع البوح الفرح التى تشعر فيه الذات بالراحة، وهى تسترجع ماضيها وحياتها التى يبدو ماضيها مريحا بلا مصاعب تذكر ولا تحديات تكسر ولا مشاق تقصم الظهر ولا أمن يقيد الحرية أو يحول دونها، ولا اصطدام مع سياسات باطشة أو ظالمة أو حتى مع مشايخ تعصب، وإنما على النقيض من ذلك فالأب أزهرى متفتح الذهن إلى أبعد حد، لم يضرب ابنه مرة واحدة، أو لا يذكر هذا الابن أن أباه قد فعل ذلك مرة واحدة، والأم حنون إلى أبعد حد، تحمى أبناءها، محتضنة إياهم بالحنان نفسه كما تفعل أمهاتنا– نحن أبناء هذه الطبقة. ورغم مرض هذه الأم الدائم بالسكرى فإنها تظل على حدبها لأبنائها ورعايتها الكاملة لهم بل استعدادها لحقن الجيران كما تحقن نفسها، وكل شىء – فى هذه السيرة- يستعاد من منظور ماض بهيج إلى أن نقترب من الزمن الحاضر، فنرى على سبيل المثال مشاهد لمحاكمة يكون فيها إبراهيم متهما أو ملعونا من مشايخ التعصب، فنقارن بين الأحوال، أحوال الماضى الجميل الذى مرت به مصر، وأحوال الزمن الحاضر الذى نعانى منه مع إبراهيم، وهذا هو المغزى الأول أو الدلالة الأولى التى تتركها فينا القراءة العابرة لهذه السيرة الذاتية الممتعة، الموجزة حقا، ولكنها المكثفة بالدلالات. وللحديث بقية.

لمزيد من مقالات جابر عصفور

رابط دائم: