رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

فرنسا.. الاستعمار والثقافة

جاءت زيارة الرئيس الفرنسى فرنسوا هولاند لمصر فى ظروف بالغة الصعوبة فى العلاقة بالعالم الخارجى وبوجه خاص

بالاتحاد الأوروبى والذى تلعب فرنسا فى داخله دوراً مؤثراً . وإذا كنا نسعى إلى تهدئة الأجواء والوصول إلى تعاملات طبيعية بل وتدعيم التعاون بيننا وبين الاتحاد الأوروبى فلا شك أن هذه الزيارة سوف يكون لها دور كبير.

فرنسا من جانبها فى ظل إدارة الرئيس هولاند تنخرط هى أيضاً كطرف فى صراعات دولية مثل الملف السورى وشمال مالى والصراع العربى الإسرائيلى. وموقف فرنسا فى هذه الصراعات محل انتقاد شديد ليس فى خارج فرنسا فقط ولكن داخل فرنسا نفسها. ففرنسا حالياً تنحاز للتدخلات المسلحة فى مناطق التوتر كما تدير ظهرها لميراث السياسة الديجولية التى كانت تحرص على التوازن بين العرب وإسرائيل، وتواجه مقاتلى تنظيم القاعدة فى مالى حرصا على مناجم اليورانيوم. وها نحن من جديد نجد أنفسنا أمام فرنسا ذات الوجهين: الوجه الإمبريالى الذى يسعى للسيطرة ولتحقيق المصالح الخاصة، والوجه التنويرى الذى ينحاز لقضايا المساواة والحرية للإنسانية بأسرها.

فى الواقع إن هذه الطبيعة المزدوجة لم تكن مصدر حيرة الآن فقط ولم نكن كذلك نحن الوحيدين الذين يلاحظون هذا الازدواج وهذا التناقض، لكنها سمة شملت تاريخ فرنسا الحديث بأسره. فلقد شاءت ظروف الصراع الاجتماعى فى فرنسا أن تكتسب الأفكار دوراً اجتماعياً مهماً وأن تتزود بمهمة تحررية. ولهذا فقبل حدوث الثورة الفرنسية التى كان لها دور مهم فى تطور أشكال الحكم فى العالم، كان هناك فلاسفة التنوير: فولتير وروسو وديدرو وغيرهم نادوا بأفكار تدعو إلى الحرية والمساواة ودفعوا ثمن هذه الدعوة غالياً . كانوا يعبرون عن تطلع الشعب الفرنسى للتخلص من القهر والاستغلال ولكن سرعان ما ظهرت لأفكارهم هذه أصداء عالمية ووجدوا أنفسهم قد أصبحوا لسان حال كل الشعوب المضطهدة فى العالم بأسره. ولو أخذنا نموذجاً مصغراً على هذه الازدواجية نذكر الفيلسوف فولتير، وقد كان حاداً فى نقده للتعصب الدينى وسخريته من رجال الدين والدولة ودفاعه عن الحرية. وكلنا نذكر قوله الشهير: «قد أختلف معك فى الرأى لكننى على استعداد لأن أدفع حياتى ثمناً لحقك فى الدفاع عن رأيك»، والذى أصبح شعاراً لكل ديمقراطى حقيقى. حُرقت كتب فولتير وزُج به إلى السجن وعانى من النفى وكان يخرج إلى السجن ممنوعاً من الكتابة ولا يعرف كيف يكسب قوت يومه. وفى هذا الوقت فى القرن الثامن عشر ازدهرت من جديد تجارة العبيد بعد اكتشافالأمريكتين واستعمارها، فاشترى فولتير سفينة تعمل بين شاطئى المحيط الأطلنطى فى مجال نقل العبيد، وتكسب مالاً وفيراً واشترى لنفسه قصرا بالقرب من سويسرا. ها نحن أمام فولتير المفكر والمتمرد والداعى للحرية وفولتير تاجر العبيد.

فولتير الأول - المفكر المتمرد - هو الذى بقى وترك آثاراً راسخة فى التاريخ. فأفكار الفلاسفة التنويريين لم تكن مؤثرة فى أوروبا وحدها ولكن النخبة الروسية فى القرن التاسع عشر ناضلت من أجل تحديث روسيا وتخليص الفلاحين من الظلم انطلاقاً من أفكار فلاسفة التنوير الفرنسيين، وأشار صن يات صن مؤسس الصين الحديثة إلى تأثره بفلسفة التنوير كما وهب غاندى الشاب حياته لتحرير بلاده بعد أن قرأ أفكار التنويريين الفرنسيين. ونعود إلى فرنسا ذات الوجهين، فقد كانت حملة بونابرت على مصر حملة استعمارية تهدف إلى احتلال مصر وتكوين امبراطورية فرنسية. ولكن قدوم الاشتراكيين الحالمين من السان سيمونيين إلى مصر فى عهد محمد على لينشئوا القناطر الخيرية والسكك الحديدية وقناة السويس صورة نادرة للتعاون الخلاق الذى لا يسعى للقهر أو الهيمنة، بل إن من بقى منهم عمل مع الطهطاوى فى مجلس المعارف العمومية ليضع لمصر مناهجها التعليمية. وفى عام ١٩٠٤ بينما كانت حكومة فرنسا تتآمر سراً مع الحكومة الإنجليزية لاقتسام الشرق الأوسط فى اتفاقية سايكس بيكو كان مصطفى كامل ينشر فى لومانيتيه صحيفة الحزب الاشتراكى الفرنسى مقالات تدافع عن استقلال مصر أمام الرأى العام الأوروبى. كما أن الجامعة الأهلية الوليدة بالقاهرة كانت ترسل طلابها المتفوقين لإتمام دراستهم العليا بفرنسا. ومع عمق وتواصل هذه الصلات الثقافية مع فرنسا كان الاندهاش عظيما بسبب مشاركة الحكومة الفرنسية فى العدوان الثلاثى على مصر بعد تأميم الرئيس جمال عبد الناصر لقناة السويس. ولم تكن مصالح فرنسا التى أضيرت بسبب التأميم تبرر هذا التدخل العسكرى وهذا الاستخدام للقوة.ربما كان السبب الحقيقى هو الانحياز التقليدى للحزب الاشتراكى الفرنسى الحاكم وقتها لمصالح إسرائيل. هكذا فرضت الصلات التاريخية تمييزاً بين الثقافة والسياسة. فنحن ندافع عن مصالحنا ضد طغيان الآخرين وتسلطهم ونسعى إلى التحرر والتقدم مستفيدين بأفكار الآخرين وثقافتهم.

ولهذا أتى الرئيس هولاند لطرح ملفات بالغة الأهمية فى مجالات مكافحة الإرهاب وتنسيق المواقف فى الصراعات الإقليمية وإطلاق الاستثمارات الاقتصادية وأخيراً التعاون الثقافى. وأظن أن درس التاريخ يعلمنا أن هذا المجال الأخير هو الأكثر أهمية، فرغم أنه الأقل ضجيجاً إلا أنه الأطول عمراً.

لمزيد من مقالات د.انور مغيث

رابط دائم: