رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
يبدو استقرار العلاقات المصرية ـ السعودية من الأهمية للعالم العربى بما لا يبقيها رهينة لإرادة البلدين وحدهما، فكل نزوع إلى الصدام بينهما ليس إلا خطأ فى الحساب يضعفهما معا، وينال مما تبقى من مناعة الجغرافيا العربية إزاء الإستراتيجيات التى تبغى التهامها، وقد يستحيل حربا عربية باردة، جل ما يحلم به أحد طرفيها هو أن يخسر أقل من الآخر، بينما الحقيقة التى سيكتشفانها معا، ولو بعد قليل، أن كليهما خاسر بالقدر ذاته، تاريخيا تمحورت قيادة الكتلة الجيوسياسية العربية حول دول أربع توارثت الخلافة والمكانة وهى السعودية وسوريا والعراق ومصر. وفى القرن العشرين شكلت جميعها ما يشبه مربعا استراتيجيا أخذت أضلاعه تتنازع القيادة، وتتعايش مع ما تفرزه نزاعاتها من توترات وتحالفات، وصولا إلى لحظة الذروة المأساوية التى شهدت خروج العراق من كفة الحساب الإستراتيجى عقب هزيمته فى حرب عاصفة الصحراء التى صاغت وقائعها محورا ثلاثيا مصريا ـ سعوديا ـ سوريا تبلور تلقائيا للذود عن مفهوم السيادة الذى قام عليه نظام جامعة الدول العربية، من خلال توفير قوة الإسناد المادى والعسكرى والمعنوى للحشد الدولى خلف الولايات المتحدة بهدف تحرير الكويت. وعلى مدى العقد ونصف العقد استمر هذا المحور فى العمل بكفاءة لتوفير الحد الأدنى من المناعة العربية، حتى وقع فى شراك الأحداث الضاغطة بدءا من الاحتلال الأمريكى للعراق عام 2003م، الذى كسر التركيبة الاجتماعية المستقرة بالعراق، وحفز إيران للتدخل فى شئونه على قاعدة المكون الشعي، مرورا بالانقسام الفلسطينى بين فتح وحماس، والخلاف حول العدوان الإسرائيلى على الجنوب اللبناني، ثم على غزة مرتين، الأمر الذى فجر انقساما تبلورت ملامحه بين ما أسمى «معسكر ممانعة» جسدته سوريا مع حماس وحزب الله ومن خلفهما إيران، وما أسمى «معسكر اعتدال» قادته مصر والسعودية ومن خلفهما الأردن وفتح، ما كان يعنى تشطيرا للمحور الثلاثى إلى نواة صلبة تمثلت فى مصر والسعودية، وهامش متحرك من الجماعات والمنظمات فى قلب سوريا، ليعيش العالم العربى حالة ارتباك وانقسام. غير أن الركود والانقسام سرعان ما استحالا مطلع هذا العقد موجات من القلق والخوف بفعل عاصفة الربيع العربي، التى استهدفت إسقاط نظم الحكم الفاسدة والمستبدة ودفع مجتمعاتها على طريق التقدم والحرية، فإذا بها تدفع الغرائز الطائفية والنزعات المذهبية على طريق التوحش، إلى درجة إحالة دولها الوطنية إلى أنهار دماء يغذيها المتطرفون، ويتقاسم النفوذ فيها اللاعبون الدوليون والإقليميون، وهنا وقع تحولان أساسيان: أولهما يتعلق بسوريا التى أصبحت موضوعا لقضية تشغل الآخرين، بدلا من كونها قطبا ينشغل بقضايا الآخرين، وبدلا من كونها رافعة أساسية لمحور ثلاثى يذود عن الأمن العربي، صارت هى العبء الأكبر على الطرفين الآخرين. وثانيهما يتعلق بمصر التى بات الجدل مثارا حول دورها فى قيادة الإقليم بين تيارين فكريين: الأول يتمحور بالأساس حول مصريين، يؤيدهم عرب يؤمنون بمركزيتها، رأى فى قيادة مصر للعالم العربى أمرا بدهيا لا سبيل إلى التصرف خارج مقتضياته، وإلا كان الأمر محض خيانة تاريخية لها. أما الثانى فيتمحور حول سعوديين ويتسع لعرب آخرين خصوصا فى الخليج، اعتبروا أن زمن القيادة المصرية قد استهلكت معطياته وبادت مقوماته، ومن ثم صار على العرب «القادرين» أن يتصرفوا، وان انقسم هؤلاء بين من يطالب بحث مصر على المساهمة من باب المساندة، وبين من رأوا إمكانية تجاوزها والمضى بعيدا تماما دون انتظارها. و يجب على المصريين عدم الشعور بحساسية تجاه الجدل حول مركزية بلدهم، مع احتفاظهم بالحق فى التوجه قصدا إلى العمل بكل الطاقة لاستعادتها فى عالم يتغير بسرعة. كما يحق للسعوديين العمل كذلك على زيادة رقعة دورهم وتدعيم ركائز مكانتهم، ولكن من دون إنكار لحقائق التاريخ الحضاري، ومعطيات الجغرافيا السياسية المصرية. ولحسن الحظ فإن التيار العام العقلانى على الجانبين يدرك ذلك، مثلما يدرك الحقيقة (الكبري) وهى أن حجم الضغوط الإقليمية والدولية، ومساحات الحرائق فى الديار العربية، صارت من القوة والاتساع بما يكفى لاستهلاك طاقات جميع القادرين، ومن ثم صار مطلوبا الإقلاع عن فهم القيادة باعتبارها عملية «وراثة مطلقة» إلى كونها آلية «تضامن استراتيجي»، تقتضى تشارك المراكز الأكثر فعالية فى توجيه الحركة نحو الأهداف «العربية» الرئيسية بدلا من الصدام حولها، ما يصوغ تحالفات مرنة بين جميع المؤمنين بالمشروع العربي، حتى لو اتفقنا على أن النواة الصلبة لهذا المشروع تتمثل فى تحالف مصرى سعودى أثبتت خبرات القرن العشرين، أن حضوره يقف خلف أكثر لحظات النظام العربى ازدهارا وفعالية، وأن غيابه يقف خلف أكثرها انكسارا وهامشية. يضاف إلى ذلك حقيقة التعددية المفرطة لعناصر القوة الشاملة (العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية والروحية)، إلى درجة يصعب الجمع بينها. ولأن تشتتها يشل فعاليتها، فإن نمو الدور السعودى بعناصر قوته الصاعدة لا يمثل عبئا على الدور المصرى بعناصر قوته المعروفة، بل رافعة لإسناده، والعكس صحيح، إذ يؤدى تجميع عناصر القوة إلى زيادة فاعلية كل منها على حدة. غير أن بلوغ تلك النتيجة عمليا يفرض على الطرفين إدراكا ناضجا لطبائع القضايا الاستراتيجية وما تنطوى عليه من تعقيدات، فتقاسم القيادة لا يعنى انسيابية مطلقة لعلاقات البلدين دون تأزمات دورية، ولكنه يؤسس فى المقابل آليات واضحة لتفكيك تلك الأزمات، دون الوقوع فى أسر القطيعة والصدام. [email protected]لمزيد من مقالات صلاح سالم