رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

تحولات العقل العام

ليس غريبا على واقع مثقل بالمشكلات والتشوهات، أن يظل في احتياج دائم للتأمل، والتفكيك، والنظر الواسع للعالم والأشياء. فالعقل العام الذي يُفترض بمقتضاه، وبحسب جون رولز الفيلسوف الشهير وأحد منظري ومؤسسي الليبرالية الاجتماعية، في كتابه ( قانون الشعوب وعود إلى فكرة العقل العام)، “ أن يقوم المواطنون بإجراء مباحثاتهم حول القضايا الجوهرية ضمن الإطار الذي يشكل في نظر كل منهم تصورا سياسيا للعدالة قائما على قيم يمكن للآخرين أن يؤيدوها “، فالمشتركات العامة تخلق وسطا بيئيا حاضنا لكافة التنويعات السياسية والثقافية والفكرية والدينية، وتشكل السياق الجامع لكافة الرؤى والتصورات التي تكرس لقيم التسامح وقبول الآخر، والتعددية الحقيقية لا المصطنعة أو الزائفة، وهذا التمثيل الموضوعي للجماعة البشرية داخل أمة من الأمم، على اختلافها وتنوعها، هو ما يدعم وباختصار فكرة بقاء الأمم وتطورها وقدرتها على تحقيق قيم التقدم والعدل والمساواة.

ويضع رولز شرطا جوهريا للوصول إلى بغيته الأساسية في رفد العقل العام بجملة من القيم الإنسانية والوجدانية المشتركة، بما “ يمكن للآخرين أن يؤيدوها “، حيث يظل للتفكير النقدي وإعمال العقل دوران مركزيان في توسيع الصيغة المشتركة بين مكونات الجماعة البشرية الواحدة.

غير أن العقل العام يتحرك لدينا الآن في فضاءات معتمة، تمتد لأكثر من أربعين عاما على المسار السياسي/ الثقافي، وتتجاوز قرونا من الزمان في أصل البنية المعرفية القائمة، فالتحولات التي أصابت العقل العام على المستوى المباشر، حيث الصدى القريب لتداعي الحلم الناصري عقب نكسة الصيف السابع والستين، وما تلاه من سقوط جملة من المقولات الكبرى عن حتمية الإيمان بمشروع عربي قومي اشتراكي الملامح، ثم تعمقت أزمة العقل العام بتبني منظور استهلاكي في رؤية العالم، تجلى ذلك في قرارات الانفتاح الاقتصادي عام 1974م، وما تلاها من إحداث هزة قيمية ومجتمعية عاصفة، وبدأت الخطابات الرجعية تسود، والمد الديني يأخذ شكلا من شكول الاستقطاب الحاد، غذته أموال خارجية وتكريس داخلي للجهل والتخلف وتغييب العقل لصالح الميتافيزيقا، وبدأ العقل العام محاصرا بجملة من شيوخ التطرف الديني الذين يرفدونه بقيم رعوية بالأساس، مغايرة عن الوجدان الحضاري المصري، وبدأت تشيع خطابات متطرفة على المسار الديني، وخطابات يمينية رأسمالية على المستوى الاقتصادي، واستهلاكية على المستوى الثقافي، وبدأنا ندور في فلك التبعية السياسية التي أفضت إلى تبعية ذهنية، فضلا عن استلاب العقل المصري ذاته لصالح العقل النقلي الماضوي بتصوراته الأحادية المتشددة عن الحياة والعالم.

وشاعت حالة من الهوس بالتدين الشكلي، وكانت النهاية دراماتيكية وحزينة ومؤسفة بمقتل الرئيس السادات على يد الجماعات الإسلامية التي أخرجها من السجون، وفتح لها المجال العام، ضربا للتيارات اليسارية، وبدت مصر في مفترق طرق جديد، لكن للأسف الشديد ظلت حالة المزاوجة بين الرجعية والفساد هي المهيمنة، فتراجع كل شيء، في الأعوام الثلاثين من حكم مبارك، حتى قفزت جماعة الإخوان الإرهابية التي صدرت التطرف إلى العالم جميعه، إلى سدة الحكم في البلاد في لحظة مأسوية تدعو إلى مزيد من التأمل والقراءة العلمية.

وفي أصل الأزمة المعرفية، يبدو العقل العام أسيرا لماضيه، غير قادر على مجاوزته، محاصرا بتراث يرفعه الكثيرون إلى مرتبة التقديس، ويضعونه موضع التنزيه، وبما يعني أن مجرد مناقشته في عرفهم خروج عن الملة وأصل الاعتقاد، فما بالنا بمحاولة مساءلته، وتخليص جيده من رديئه؟!!.

من هنا كانت المحن الكبرى التي تعرض لها علماء وفلاسفة ومفكرون، وربما كانت الحادثة الأكثر دلالة متمثلة في إحراق كتب الفيلسوف النابه ابن رشد، الذي علم البشرية جميعها، واحتفت به الحضارة الغربية وقامت كثير من طروحاتها الفلسفية مستندة على صنيعه الفكري النافذ، وقد تبدلت بابن رشد الأحوال لمجرد أن أحد الخلفاء من كارهي التفكير والفلسفة اتهمه بالكفر والضلال، فأبعده إلى بلدة صغيرة إلى جوار قرطبة التي كان قاضي قضاتها في ذلك الزمان، ثم حرق الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور كتب ابن رشد ومؤلفاته، وحظر الاشتغال بالفلسفة، والعلوم، ما عدا الطب والفلك والرياضيات. إن السياق العام الذي أحاط بابن رشد كان سلفيا بامتياز، تعاطى معه باعتباره كافرا، وكان كثير من شيوخ زمانه ينظرون إلى العلوم بوصفها تتصل بالكفر، وتستقي المعرفة من أرسطو وغيره، وقد كان ابن رشد الشارح الأكبر للمعلم العظيم أرسطو، ومن ثم فهو في عرفهم كافر مثله!، لقد مات ابن رشد حين أحرقت كتبه، ولم يمكث فعليا سوى شهور قليلة حتى رحل واصفا مأزقه التاريخي/ الوجودي في عبارة دالة” “ تموت روحي بموت الفلسفة”.

وبعد.. لا بد من إعادة الاعتبار إلى العقل العام، بدءا من تهيئة المناخات الداعمة لحرية الفكر والتعبير، والتأسيس لواقع لا تكبله القيود أو الميتافيزيقا، ورفد الوجدان الجمعي بقيم إنسانية نبيلة ومتحضرة، وتفعيل دور المؤسسات التعليمية والثقافية التي أكلها الصدأ، وابتعدت عن أداء أدوارها الطليعية، والمشاركة الفاعلة في تجديد أدوات العقل العام، وبما يعني تفعيل قيم المساءلة والنزاهة والشفافية، فضلا عن الوعي بمخاطر اللحظة وتحدياتها، أما التعاطي البليد مع الراهن، والاعتقاد بأن كل شيء جيد طالما ظل كل شيء ساكنا!، وأن الثبات الفارغ فضيلة، فالمحصلة النهائية لهذه التصورات المغلوطة والكوميدية أيضا ستكون مزيدا من الانهيارات والوقوع النهائي في فخ انحطاط تاريخي سندفع جميعا ثمنه، لكن مسئوليته الحقيقية تقع في الحقيقة على عاتق كل صناعه والمباركين له.

لمزيد من مقالات د.يسرى عبد الله

رابط دائم: