رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
لا أحد يبارى وينافس المصريين فى فنون التغنى بحضارتهم العريقة، وتاريخهم العظيم الوضاء، وإن كانت هناك جائزة عالمية كبرى فى مجال الافتخار الشفهى بالتاريخ، فهم جديرون بنيلها عن استحقاق وبلا منازع، لكن الغناء والتراقص على أنغامه لا يكفل المحافظة على تاريخنا وذاكرتنا الوطنية التى تتعرض للتآكل والتجريف المستمر، وهو خطر داهم إن لم نوقفه سريعا سنكون عرضة ليس للعن التاريخ، وإنما للعنات الأجيال القادمة التى لن تغفر لنا تفرطنا وتقاعسنا عن حفظ التاريخ. الشاهد على ذلك ما نتابعه الآن من تراشقات وسجالات بشأن جزيرتى “تيران“ “وصنافير”، اثر الاعلان عن اقامة جسر برى يربط مصر بالسعودية، فمع احتدام الجدل والخلافات اصدرت حكومة شريف إسماعيل، بيانًا مساء أمس الأول، أعلنت فيه أنهما سعوديتان، لتبدأ بعدها زفة طويلة عريضة عن تنازلنا عن الجزيرتين، والتفريط فى قطعة من ترابنا الوطني. فالحكومة انتظرت اشتعال النيران وانتشارها فى الهشيم قبل أن تتدخل بالشرح والايضاح، وكان لازما عليها التحرك قبل بدء زيارة العاهل السعودي، فالرأى العام المصرى من حقه معرفة الحقيقة كاملة دون نقصان، وكان واجبًا تهيئته مسبقا لما سيحدث، وأن تكون حكومتنا جاهزة بالأدلة والخرائط الداحضة للرد على من يُشكك ويُخون. فكم واحدا منا على علم اصلا بأن الجزيرتين تقعان داخل المياه الاقليمية السعودية، وأن السعودية طلبت من الملك فاروق بعد حرب فلسطين سنة 1948 حمايتهما، وهل أوردت كتب التاريخ المقررة على تلاميذنا بالمراحل التعليمية المختلفة الحقائق والوثائق المتصلة بهذا الموضوع، أم أنها كانت تتحدث عنهما كأرض مصرية؟ لدى شكوك بهذا الخصوص، فأساليب التعليم لدينا عقيمة وبالية، ولا أريد وصفها بالمتخلفة، وبها خلل وثغرات رهيبة، لا سيما فى طريقة تدريس التاريخ المعتمدة على الحفظ المجرد وسكب المعلومات على ورقة الإجابة فى امتحانات منتصف ونهاية العام، بعدها تتبخر من الذاكرة ولا يبقى منها اى شيء على الاطلاق، فلا فسحة ولا مساحة لتدبر واستخلاص دروس وعبر التاريخ، لتجنب الوقوع فى نفس الأخطاء والزلات القاتلة، هذا بخلاف عيب التلوين السياسى للمناهج تبعا لطبيعة وتوجهات النظام القائم، وطغيان الأهواء الشخصية أحيانا على واضعى هذه المناهج المفترض أن يُعهد بها لخبراء ثقات لا يخضعون لضغوط ولا يجاملون ويغازلون الحاكم الجالس على مقعد السلطة، فبوصلتهم ضمائرهم، ومراعاة المعايير والقواعد الدولية المتفق عليها عند وضع وكتابة المناهج اتساقا مع قاعدة راسخة غير قابلة للنقاش، هى أن الوطن باق والحكام زائلون. يترافق مع ما سلف عيب آخر فظيع، هو أننا لا ننظر لتاريخنا على أنه حلقات متصلة ببعضها البعض، فهو كتل منفصلة ومتباعدة، مما يتسبب فى اندثار كثير من الوقائع والحقائق التى يتم ايرادها ليس وفقا لسياق ومعطيات حدوثها، وإنما وفقا لقناعات ووجهة نظر مَن يتحدث أو يكتب عنها، فلو كان مؤيدًا للزعيم الراحل جمال عبد الناصر فإنه سوف يلبس العهد الملكى ثياب الشياطين، ولو كان ساداتيا فإن زمن عبد الناصر كان بشعًا وخانقًا، ولو كان مباركيا فإن عهد صاحب الضربة الجوية أنقذ البلاد من أهوال وخطايا ناصر والسادات وهكذا، ومن يرغب فى الاستزادة فليقرأ كتابا صدر حديثا عن وزير الداخلية الراحل شعراوى جمعة، الذى كان ضمن الدائرة القريبة من عبد الناصر، فالكاتب الذى يعرض مذكرات شعراوى جمعة اعتبر منذ السطور الأولى أن السادات كان خائنا، ومخاصما للديمقراطية، والانتخابات الحرة النزيهة. انظر كيف نعامل تاريخنا بهذا الشكل السخيف غير الأمين وغير اللائق، فى الوقت الذى اقدم فيه الرئيس الروسى فلاديمير بوتين على اتخاذ قرار جرىء فى السابع من أبريل الجارى بتأسيس “صندوق تاريخ الوطن” بغرض قطع الطريق على الغرب للتلاعب بوعى الروس، وتشويه تاريخهم والعبث به، وسيأتى تمويله من موازنة الدولة، ويضم فى عضويته رئيس مجلس الدوما “البرلمان”، وعلماء وأكاديميين بارزين. فهل فكرنا فى اجراء مماثل يحفظ لنا تاريخنا، ويجدد خلايا النشاط واليقظة داخل ذاكرتنا الوطنية، وأن تكون الدولة الحارس والراعى له ويؤازرها المصريون؟ لم نر بعد ما يؤكد ذلك، ومن جهتى اطرح اقتراحين لدراستهما والبناء عليهما إن أمكن، الاقتراح الأول أن نعزز بقوة ثقافة الافراج عن الوثائق بعد وقت محدد، كما تفعل العديد من الدول فى أرجاء المعمورة، فوثائقنا ستغنينا عن الانزلاق بمستنقع الشك الطاغى عند دراسة فترات تاريخية بعينها، فالباحث لا يجد أمامه سوى الوثائق والمراجع الغربية والأمريكية بما تحمله من سموم وتقديرات مغلوطة، ومذكرات فلان أو علان ممن عاصروا هذه الفترة، ولا أدرى ما الذى يمنع وزارة الخارجية المصرية مثلا من الكشف عن بعض وثائقها بعد 25 أو 30 عاما، فذاك سيدعم الشفافية التى نشكو من قلتها. الاقتراح الثانى ربط الصغار والكبار بتاريخنا من خلال إعادة النظر فى المناهج المتداولة بمدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، ووقف التعديات المتواصلة على اثارنا المعرضة للسرقة والنهب، والتوسع فى خطط اقامة المتاحف بأنواعها. وكم يؤلمنى قلة المتاحف وزوارها، إذ يوجد 53 متحفًا تابعًا لوزارة الاثار، 12 منها فقط مفتوحة للزيارة، والبقية تحت الانشاء، والتطوير، وانتظار توفير التمويل، الغريب أن معظم المصريين يعتقدون أن المتاحف أنشئت لكى يزورها السياح وليس نحن للتعرف على الحقب التاريخية المتنوعة التى عاصرتها مصرنا، ونزداد ارتباطًا بها، وتدفعنا للمحافظة عليها وليس هجرتها والاعتداء عليها. يؤلمنى أيضا عندما أتطلع لقائمة أكثر 10 متاحف فى العالم يقبل على زيارتها الناس فلا أعثر من بينها على متحف مصرى رغم أننا نتشدق بوجود ثلث اثار العالم عندنا، إن الخطب جلل يستدعى مسارعتنا لتصحيح أخطائنا قبل وقوعنا تحت طائلة «لعنة التاريخ». [email protected]لمزيد من مقالات محمد إبراهيم الدسوقي