رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
هذه العبارة وردت فى نهاية كتاب صدر عام 2006 لفيلسوف متخصص فى الفلسفة اليونانية اسمه دانيل جراهام وعنوانه الرئيسى “ تفسير الكون”. وعنوانه الفرعى “ التراث الأيونى فى الفلسفة العلمية”. والسؤال اذن: مَنْ هم الأيونيون؟ وما هو التراث الأيوني؟ وما العلاقة بينه وبين القرن الحادى والعشرين؟ كان اليونان فى قديم الزمان أربع قبائل كبرى من بينها الأيونيون. كانوا يقيمون فى منطقة اسمها أيونية قامت فيها مدن من بينها ملطية التى كان يقال عنها إنها “ جوهرة أيونية” وتضم تجاراً أثرياء وحكماء. وكان يقال عن هؤلاء الحكماء إنهم سبب نشأة الفلسفة والعلم فى العالم الغربي. وكان يقال أيضاً إن هؤلاء قد ارتحلوا إلى أكثر الحضارات تقدماً ومن بينها مصر وبابل ليعرفوا أسرار تقدمهما. والسؤال اذن: ما هى هذه الأسرار؟ كانت لهاتين الحضارتين “ أدوات البحث العلمي”، ولكن لم يكن لديهما “ تصور” عن البحث العلمي. فالبابليون كانوا يراقبون تحركات الأفلاك من أجل مساعدتهم على التنجيم. أما المصريون فكانوا يراقبونها من أجل تحديد مواعيد الأعياد الدينية وفيضان النيل والفصول الزراعية. وفى شأن الرياضيات كانت الحضارتان مصر وبابل تهتمان بالعمليات الحسابية وحل المشكلات العملية، ولكن لم يكن لديهما مفهوم “ البرهان” الذى هو أصل نشأة الفلسفة والعلم. ومن هنا أيضاً قيل عن الأيونيين إن قيمتهم الحضارية تكمن فى أنهم انشغلوا بتكوين رؤية علمية عن الكون . وفى هذا السياق يمكن الحديث عما يسميه دانيل جراهام “ التراث الأيوني”. والسؤال إذن: ما هى الفكرة المحورية فى ذلك التراث؟ إنها تدور حول أصل الأشياء فى هذا الكون مع اختلاف بين فريقين. فريق يرى أن الأصل متمركز فى مادة تتولد عنها مواد أخري، ومع تغيرها تصبح مادة جديدة. واسم المادة الأصلية يختلف باختلاف الرأى عند هذا الفريق. فقد قيل إنها الماء أو النار أو مادة لا محدودة ولكنها ثابتة وأبدية، أى تبقى المادة الأولى كما هى على الرغم من تحولها إلى مواد أخري. وفريق آخر يرى أن هذه المادة التى هى الأصل ليست واحدة إنما متعددة. واللافت للانتباه هاهنا أنه على الرغم من تباين آراء هؤلاء الأيونيين إلا أن ثمة مشروعاً مشتركاً بينهم وهو تفسير ما يحدث فى الكون فى إطار ألفاظ طبيعية مختارة على أساس مكونات طبيعية خالية من أى عنصر أسطوري. ومن هنا يمكن القول إن المشروع الأيونى هو فى صميمه مشروع يتسم بأنه ينشد إحداث وحدة ولكنها فى حالة تقدم، بمعنى أن ثمة استعداداً لتغيير الاطار النظرى إذا عجز عن تفسير ظواهر جديدة. ومعنى ذلك أن البديل وارد ولكن بشرط أن يكون هذا البديل متسقاً مع التفسير الطبيعى للكون. ومعنى ذلك أن الأيونيين هم الذين ابتدعوا العلم الطبيعيي، وكان مكوناً من ثلاثة تصورات: الكون والطبيعة والعلم. والكون هنا بمعنى النظام، وهو بهذا المعنى ينطوى على اتساق قائم بين مكوناته التى هى عبارة عن طبائع تتفاعل فيما بينها على أساس طبيعة كل واحدة من هذه الطبائع. ومن هنا يمكن دراستها علمياً بمعنى أن الماء يؤثر من حيث هو ماء، والنار تؤثر من حيث هى نار. ومن هنا ثانياً يكون الكون نسقاً متسقاً قابلاً للبحث العلمى فى حدود قدرة العقل من حيث إن هذه القدرة محكومة بادراكات حسية وبتفاعل بين الانسان والكون. وأى تطور علمى بعد ذلك لم يكن ممكناً إلا فى إطار التراث الأيوني. وحتى الذين كانوا يعترضون على ذلك التراث كانوا مشاركين فيه من حيث التزامهم بألا سلطان على العقل إلا العقل نفسه. وإذا كان هذا الالتزام هو سمة التنوير فى القرن الثامن عشر الميلادى فمعنى ذلك أن عصر التنوير مدين لذلك التراث الأيوني. ومن هنا ثالثا يمكن القول إن العلم المعاصر إنما هو استمرار لذلك التراث. ومن هنا رابعاً يمكن القول مع دانيل جراهام بأننا كلنا أيونيون. واللافت للانتباه بعد ذلك أن جراهام لم يذكر فى كتابه المصريين إلا أربع مرات، وفى إطار أنهم لم يتجاوزوا ما هو عملى وأسطورى إلى ما هو نظرى وعقلاني. وهنا يلزم إثارة هذا السؤال: لماذا توقف المصريون عن مجاوزة ما هو أسطورى إلى ما هو عقلاني؟ الرأى عندى أن ذلك مردود إلى سببين: الفرعون وأسطورة عودة الروح. الفرعون ينقلك من الطبيعة إلى ما بعد الطبيعة، إذ كان فى البداية ابن حورس ثم أصبح ابن رع وفيما بعد أصبح رع إله الشمس. ومن هنا أصبح هو الحاكم المطلق فى إطار مفهوم المقدس المتجسد فى الكهنة. ومن هنا أيضاً كانت لدينا سلطتان متداخلتان – وهما الفرعون والكهنة- وكان كل منهما يغذى الحكم الالهي. أما أسطورة عودة الروح فكانت السبب فى نشأة علمين عمليين وهما الهندسة العملية والطب. الأولى من أجل بناء الأهرامات التى هى عبارة عن مقابر ضخمة يدفن فيها الفراعنة إلى أن تعود أرواحهم إليهم. أما الثانى فهو من أجل تحنيط أجسادهم لكى تظل سليمة حتى موعد عودة أرواحهم. وبعد ذلك يبقى سؤال: هل الحضارة الغربية تقدمت بلا عائق ابتداء من التراث الأيوني؟ الجواب بالنفي. فقد تمثل العائق فى العصور الوسطى التى كانت فيها السلطة الدينية تتوهم أنها تمتلك حقيقة مطلقة تفرضها على البشر. ومَنْ يرفض يتهم بالالحاد وأحياناً ما يُقتل. وقد تحررت أوروبا من هذه العصور بفضل حركة الإصلاح الدينى فى القرن السادس عشر وتيار التنوير فى القرن الثامن عشر. وبذلك تجاوزت أوروبا ذلك العائق ومنعته من التدمير. ونفس هذا السؤال موجه الآن إلى الحضارة الإسلامية فكيف يكون الجواب؟ لمزيد من مقالات مراد وهبة