رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

مفهوم الدولة الدينية

لقد رأينا جدلا مستمرا قد يصل إلى حد الصراع الفكري حول تحديد العلاقة بين الديني والسياسي في توصيف نظام الحكم في الدولة، إلى الحد الذي جعل البعض يرفض مرجعية الشريعة للدولة باعتبار أن ذلك يثمر عن تبني فكرة الدولة الدينية التي كانت وراء العديد من الإشكالات في الغرب وقد تخلص منها بفكرة العلمانية، ومن ثم يخشى هذا البعض من التردي مرة أخرى في ظلال الدولة الدينية.

بيد أن هذا غير موجود بالمرة فيما نحن بصدده، لأن حقيقة الدولة الدينية كما هي عند الغرب هي التي يكون فيها رأس الدولة مدعيًّا الإلوهية أو بعض صفاتها، أو يزعم أنه مختار من الله تعالى بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومن ثَمَّ تثبت له – زعمًا- خصوصية أنه في مرتبة لا يرقى إليها أحد من أفراد الشعب، وأنه لا يجوز الاعتراض على تصرفاته وأقواله، ولا يتصور في حقه أن عليه مسئوليات وواجبات نحو رعايا الدولة.

ولا ريب أن الإسلام لم يسعَ يوما لترسيخ مثل هذه المفاهيم والنظم التي تبيح التسلط على رقاب الناس الذين ولدتهم أمهاتُهم أحرارًا، فلم يُعرف في تشريعاته ولا في حضارته عبر تاريخه العظيم شئ من هذه المفاهيم الفاسدة وتلك النظم الظالمة.

فقد مثَّل النبي صلى الله عليه وسلم رأس الدولة والإدارة المنظمة التي حازت السلطات في مجتمع المدينة المنورة، ورغم كونه يوحى إليه بالرسالة الخاتمة فقد كان بشرًا عريقًا في بشريته، وهذا مدخل أصيل لفهم الحكمة من أن تصرفاته صلى الله عليه وسلم لم تكن على نمط واحد، بل جاءت حسب تنوع الاختصاصات والصلاحيات ومراعاة مقتضيات الواقع وأحوال الناس والعمران.

هذه المعاني السامية والمقاصد المرعية الواردة في تصرفاته صلى الله عليه وسلم ظاهرة للعيان، تدرك بأدنى تأمل، وقد أرشد إليها الإمام القرافي بقوله: «اعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم، والقاضي الأحكم، والمفتي الأعلم؛ فهو صلى الله عليه وسلم إمام الأئمة، وقاضي القضاة، وعالم العلماء؛ فجميع المناصب الدينية فوضها الله تعالى إليه في رسالته.. ولقد دأب النبي صلى الله عليه وسلم في تعظيم الملكات العلمية والخبرات القيادية لأصحابه مع ترسيخه للاستحقاقات السياسية والتشريعية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لافتًا إياهم ألا يعتقدوا أنهم متكلمون باسم الله أو باسم نبيه، بل عليهم ألا يدخروا جهدًا فيما أقامهم الله تعالى فيه من الخدمة، وأن ينسبوا اجتهادهم هذا إلى أنفسهم، ولا يلصقوه بالله تعالى ولا برسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كانت قد جاءت كشفًا واستمدادًا من الأصول والقواعد الشرعيَّة، حيث نجد وصيته صلى الله عليه وسلم لأحد الأمراء والقادة، وفيها: «وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله، فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا».

وهو مبدأ راسخ في عمل الأمة، فقد كتب كاتبٌ لعمر: «هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر»، فانتهره عمر رضي الله عنه – وهو المحدث بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم- قائلا: ( لا، بل اكتب: هذا ما رأى عمر، فإن كان صوابا فمن الله، وإن كان خطأ فمن عمر).

هذه شواهد واضحة تؤكد أن الدولة في السياسة الشرعيَّة يقوم بأعمالها أناس غير مفوضين من الله تعالى أو يمارسون أعمالهم باسم الإله ولا نيابة عنه، وأن مهمة الحاكم ليست تشريعية، وإنما هي مهمة المتخصصين من الأمة من خلال الاجتهاد وفق الضوابط الشرعيَّة والمقاصد المرعية، ورئيس الدولة شأنه في ذلك شأن أي مجتهد من المجتهدين، وكلهم يدورون في اجتهادهم وفق دائرة الثابت والمتغير. وفي ذلك إرساء للقواعد والأسس التي انطلق منها المسلمون عبر تاريخهم في تناسق حكيم مع العالم الذي يعيشون فيه بمخلوقاته المتنوعة ومعلوم أن الاجتهاد أصل في التشريع الإسلامي الحنيف، وعليه مدار كبير في الكشف عن الأحكام الشرعيَّة واستثمار الأدلة النقلية والعقلية، وقد أولاه الإسلام مكانة جليلة، خاصة أن وقوعه جائز منه صلى الله عليه وسلم كما حققه جمهور الأصوليين، وفيه تثبيت للأمة، ودلالتها على صحَّة الأخذ بالأحكام التي يكشف عنها العلماء الذين توافرت فيهم ضوابط وآليات الاجتهاد.

وكيف تصح في الأذهان الدعاوى التي تقول إن الإسلام يرسخ للدولة الدينية، مع كونه يقرر قاطعًا عقلا وشرعًا وواقعًا أن آخر اتصال للوحي كان على النبيِّ الخاتم صلى الله عليه وسلم؟ وكيف تستقيم هذه الأفكار المغلوطة مع تَشَوُّف الإسلام للحرية وترسيخه لمبدأ العيش الكريم مع المخالف وتقريره للمرجعية التشريعية لغير المسلمين عند الاختلاف أو التنازع ؟ وهذا من أعظم الأدلة على أنه لا يوجد في الحضارة الإسلامية ما يسمى بالدولة الدينية أو الثيوقراطية كما عرفها الغرب.


لمزيد من مقالات د شوقى علام

رابط دائم: