رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

التاريخ حين يهمس ثم يصرخ

هو المراوغ الذي لا يفصح عن أحداثه إلا لمن يملكون موهبة الاستغناء والقدرة على دفع الثمن الصعب. والثمن الصعب هو الإصرار على تجميع جزيئات الأحداث والوقائع؛ لنخطو إلى مستقبل على مقاس إرادة الحلم به .

هذا ما أهمس به لنفسي عندما تأتي كلمة «التاريخ» أمام عيوني أو تطل من ذاكرتي . فمنذ أيام مرت ذكرى تحرير طابا برفع العلم المصري عليها، بعد رحلة نضال يصعب جمع تفاصيلها من وقائع، تبدأ من ثقوب في ضمير بعض ممن أوكلت لهم ثورة يوليو مهمة الدفاع عن أفكارها، فغرق بعضهم بين أمواج خيانة المسئوليات، فجاءت النكسة عارمة صاعقة في يونيو 1967؛ ليخرج مارد الإرادة من قلب عبد الناصر الذي تخلص من أعباء كانت تحول بينه وبين اتخاذ قرارات على ضوء معلومات أمينة، خرج مارد الإرادة ليختار من يعيد الإنضباط الصارم إلى المقاتلين هو الفريق محمد فوزي ، بينما يقود التدريب والتخطيط هذا العقل النادر الموهوب الفريق عبد المنعم رياض، فيبزغ العلم مع العمل فتكون حرب الاستنزاف المجيدة، ولم يترك عبد المنعم رياض الحياة عندما رحل بالجسد إلا بعد أن اختار عقولا حساسة استوعبت خبرات التدريب سواء في الشرق والغرب، وعندما أذنت الظروف كان للتاريخ كلمته ، فلايمكن اختيار يوم السادس من أكتوبر الذي كان يوم إحتفال ديني عند الخصم ، ثم إختيار توقيت الثانية بعد الظهر كبدء الهجوم المباغت الذي لم يسبق له نظير في قديم التاريخ وأحداثه، مع قياس سرعة تيارات المياه في القناة ، فكان العبور المعجز الدال على أن التقاط التفاصيل من الوقائع ثم إعادة صياغتها لتكون سلوكا ، ومن بعد ذلك صارت تاريخا حقيقيا وساطعا.

من بعد ذلك جلست الحيتان بجانب السادات لتبدأ رحلة إستغناء عما تم بناؤه من مصانع وأسلوب حياة ليطمع أهل النقمة على إنجازات يوليو الاجتماعية، فيبدأ التفريط في الكثير من إنجازات يوليو وأول تفريط هو إهدار الكفاءة في اختيار قيادات الحقائق الإجتماعية ، لنسمع صوت السادات وهو يعلن أن متر الأرض في ميدان التحرير صار يفوق ثمن متر الأرض في نيويورك؛ وتصادف ذلك مع ظهور علامات سوء التغذية على طوابير المرضى أمام مستشفى القصر العيني، ذلك الترمومتر الكاشف لصحة المجتمع، حيث كان يأتي إليه أي مريض من أقصى الصعيد أو العريش التي تم تحريرها أو أسوان التي تزدان بالسد العالي وبشركة كيما أونجع حمادي التي أضاءت بمجمع الألمنيوم. وصادف كل ذلك النمو السرطاني لمجمع الجواسيس المستندين إلى تزييف كتاب الله وسنة رسوله الأكرم، وأعني بذلك تيارات التأسلم السياسي، فألجموا السادات صمتا برصاصات قاتلة في ذكرى انتصارات أكتوبر لتبدأ رحلة دبلوماسية ماهرة متعددة الخبرات بداية من العلامة وحيد رأفت ومرورا بمفيد شهاب وبحنكة نبيل العربي الذي رأس وفد مفاوضين أعرف منهم شقيق روحي وأيامي السفير حسن عيسى الذي قاتل ببسالة ليضع الوفد الإسرائيلي في سلسلة من المآزق المتتالية، وهو الذي سبق ورسمت خطواته على الحدود حقيقة الخرائط الكاشفة لحقائق مصرية التراب الوطني. لكن مبارك الذي رفع العلم المصري بدأ من قبل تحرير طابا بعامين هو من تابع تنفيذ سياسة تفريخ القطاع العام من جدواه .

ولا أنسى قول من اخترته مثلا أعلى لي إبان مراهقتي وهو المقاتل المثقف ثروت عكاشة وهو بالمناسبة جار وصديق طفولة مع عبد المنعم رياض, وظلت حياة د.ثروت وخطواته من إنكار الذات طريقا لتضيف إلى التاريخ». قال ذلك دون أن يذكرني بحقائق حياته ، لحظة أن استغنى عن مقعده في مجلس قيادة ثورة يوليو لحسين الشافعي لمجرد انصياعه لرغبة ثروت بتحرك القوات التي نفذت بعضا من مهام ليلة الثالث والعشرين من يوليو، ولم يذكرني بتفاصيل حلمه الذي بدا محالا وهو إنقاذ آثار النوبة، وكيف تعامل برفعة أمام عرض أمريكي بشراء بعض من تلك الأثار، فاقترح إهداءهم معبدا بشرط مساهمة فعالة في إنقاذ أبو سنبل . ولم يحك عن الليالي التي سهرها ليؤسس أكاديمية للفنون فضلا عن أوركسترا شديد الإبداع ، وفرق مسرح ترنو إلى ثقافة رفيعة ، فضلا عن تأصيل جذور كل الفنون في موسوعته النادرة «العين تسمع والأذن ترى». فقط ضحك بإبتسامة رائقة ونحن جالسون على شاطئ القناة في إستراحة شقيقه صديق أفكاري د. أحمد عكاشة، قال «خيرني الطبيب بين إستمراري في المشهد السياسي ثم الاحتراق بالأمراض لتنتهي حياتي, لتكون لي جنازة فخمة ؛ وبين صيانة الحياة لإتمام موسوعة العين تسمع والأذن ترى، وحين تنتهي الحياة قد لا يسير في جنازتي سوى أفراد أسرتي ، واخترت طبعا استمرار الحياة للإنتهاء من الموسوعة الذاخرة لتكون في أوائل سجل أعمالي لحظة الحساب الإلهى».

وأذكر أنا كاتب هذه السطور أن قدمت استقالتي من مناصب الصحافة التنفيذية ؛ خصوصا في عصر مبارك الذي طالب قيادات الإعلام بعبادته ونسبة الوطن إليه، ولابد هنا من ذكر صديق الأيام الذي لم يقدم أي تنازل عما يعتقد وهو رءوف توفيق الذي رأس تحرير صباح الخير، وأفنى صحته في مقاومة سلاطين تزييف الرأي والوعي ؛ فبدا كمسيح يمشي على أرض زماننا رغم علمه بوجود أكثر من يهوذا . وقد ترك المنصب منهكا بعد أن أعطى كل ما عنده ليزرع بشرا يطبقون ما علمه لنا أستاذنا فتحي غانم ، بأن الواحد منا يختار إما أن يكون مجرد رقم مضاف لمن يسبحون بالقارئ الواحد، أو يكون مخلصا مع الجموع التي تقرأ وتفحص وتميز فتقدم الاحترام، وتحتفظ بعميق عدم التقدير للأرقام المسبحة بالقارئ الواحد.

وآه من قسوة التاريخ حين لا يتقن الحاكم خطوات الأحداث ويستسلم لغواية السلطة ، فيتوهم أن تصميم بدلة مزينة بخطوط غير واضحة البيان ، ويحمل كل خط منها اسمه مكررا. ولا يفيق ذلك الحاكم لمهانة عبث القوى الكبرى به ، ويغرق في مسلسل تربية تماسيح الثراء اللصوصي المتمركز في بطانة من رجال أعمال قاموا بالسيطرة على السلطة السياسية دون أن ينتبهوا إلى أن سوء التغذية وتكدس الوطن بعشوائيات لا إنتاج لها ، وعلى القمة توجد طبقة تدمن استنزاف معظم خيرات الوطن، ويوطنون أنفسهم على نيل جنسيات أجنبية تضمن لهم الحماية بعد تهريب الثروة، وأقسم بالله غير حانث أن واحدا من مسئولي الشركات العالمية المتعددة الجنسية قال لي بحضور غيري إن عائلة ما تؤسس توكيلا لمنتجات شركته العالمية ، لا تستبقي في مصر لو دولارا واحدا لليلة واحدة بل تقوم بتحويل الأرباح في نفس الليلة. وطبعا كان لهذه العائلة إثنان يحتل كل منهما منصب وزير من وزراء مبارك، الذي لم يفطن إلى أن اسمه المغزول كخطوط في قماش بدلته سيتحول إلى قضبان يقف خلفها لتتم محاكمته وهو شيخ مزدحم بالثروة والمهانة وآلام غياب الحفيد الذي مثل له قصة مودة بلا حدود .

ودائما ما أذكر نفسي بأن مكر التاريخ يقتضي الإنتباه ؛فهو المراوغ الذي لا يفصح عن أحداثه إلا لمن يملكون موهبة الhستغناء والقدرة على دفع الثمن الصعب . والثمن الصعب هو الإصرار على تجميع جزيئات الأحداث والوقائع ؛ لنخطو إلى مستقبل على مقاس إرادة الحلم به .. فهل ننتبه ؟

لمزيد من مقالات منير عامر

رابط دائم: