رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

الأستاذان

غادرت دنيانا فى أسبوع واحد شخصيتان ترك كل منهما بصمته فى تاريخ مصر وفى تاريخ العالم وذلك على الرغم من فوارق وخلافات هائلة بينهما، ومع ذلك كان هناك الكثير مما اشتركا فيه، بحيث أغفل من كتب عنهما عن الفوارق، اذ طغت على ذهنه قسمات مشتركة بينهما.

ولعل أولى هذه القسمات المشتركة هى ملكة الأستاذية فى كل منهما. أصبح أولهما يعرف بالأستاذ، وهو لقب شعبى غير رسمى خلعه عليه أبناء المهنة. فالمعرفة الواسعة بشئون مصر والعرب والعالم والصحافة والثقافة والفنون، جعلت من محمد حسنين هيكل أستاذا لكل من قرأ له أو تعلم منه فى مجال الصحافة، أما الثانى فقد أشتهر بلقب الدكتور مع أنه كان أستاذا بكل معنى الكلمة رسميا وواقعيا، كان أستاذا ورئيسا لقسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، ومحاضرا بارزا بالعديد من الجامعات والمؤسسات الأكاديمية الغربية، ولكن كما كان هيكل يضرب المثل للأكاديميين بدقة مصادره وبالمامه الواسع بنظريات العلاقات الدولية، كان بطرس غالى أستاذ القانون الدولى يبحر واسعا فى محيط الفكر الاستراتيجى العالمى ناقلا لقرائه وتلاميذه أحدث ما كان يطرحه هذا الفكر الذى عرفه من خلال قراءاته ومن خلال اتصالاته بمراكز صنع القرار فى الدول الغربية خصوصا.

وربما كانت السمة الثانية المشتركة بينهما هى علاقة كل منهما بنمط الحياة الأرستقراطي. نشأ أولهما فى حى باب الشعرية ولم يحصل على تعليم جامعي، وكان الثانى ابن عائلة ذات ملكيات واسعة من الأراضى فى صعيد مصر وحفيدا لرئيس سابق لوزراء مصر. ومع ذلك أشتهر الأول بتدخينه للسيجار وولعه برياضة الجولف وعشقه لما لذ من الطعام وتعجبه من عشاء جمال عبد الناصر الذى كان يقتصر على الجبنة البيضاء. ويلتقى زواره المفضلين فى مزرعته الشهيرة ببرقاش. أما الثانى فلم يعرف عنه قبل أن يصبح وزيرا ثم أمينا عاما للأمم المتحدة سوى نمط حياة أستاذ الجامعة المنكب على البحث والتدريس والكتابة دون أن يحيط نفسه أو يشيع عنه نمط حياة مختلف عن نمط حياة أقرانه من أساتذة الجامعة. بل وكان أقربهم الى قلبه فى مصر أستاذ جاء من أعماق الطبقات الشعبية فى دلتا مصر عرف بمحافظته فى حديثه وسلوكه على كل ما كان سمة بارزة لهذه الطبقات.

وكانت السمة الثالثة المشتركة بينهما هى علاقة الندية التى امتلكاها فى مواجهة الغرب. كل منهما تعلم من الغرب. أولهما تتلمذ على يد صحفيين بريطانيين فى جريدة الايجيبشيان جازيت،وامتلك ناصية اللغة الانجليزية حديثا وكتابة وقراءة ، وجال عواصم أوروبا والشمال الأمريكى مستمتعا بصحبة الغربيين ومتذوقا لثقافتهم وحضارتهم ومحاورا لبقا لهم، والثانى ولد فى أسرة تتحدث الفرنسية بين أفرادها، وتلقى شهادة الدكتوراه من جامعة باريس، وكان محاضرا معروفا فى المؤسسات الجامعية والأكاديمية الأوروبية . ولكن لم يتردد أى منهما فى انتقاد الغرب والكيل بصاعين له عندما بدا ذلك ضروريا ،الأول من خلال مواقفه الى جانب عبد الناصر المعادى للاستعمار ثم من خلال كتاباته بعد أن ابتعد عن مواقع السلطة فى ظل السادات ومبارك، والثانى من خلال موقفه من قضية اصلاح الأمم المتحدة وضرورة تحقيق الديمقراطية فى العلاقات الدولية، واصراره على الاستقلالية فى ادارة شئون المنظمة الدولية مما جلب عليه سخط الادارة الأمريكية وخلها البريطانى الوفي. كل منهما كان نتاج التقاء الحضارتين العربية والغربية، ولم يشعرا بأى عقدة لا هنا ولا هناك.

وكانت السمة الرابعة هى ما جمع بينهما، وهى عمل كل منهما فى مؤسسة الأهرام، حيث رأس الأول تحريرها ومجلس ادارتها منذ 1957 وحتى سنة 1974، وبدعوة من الأول أسس الثانى مجلة الأهرام الاقتصادى ثم دورية السياسة الدولية وشارك فى تأسيس مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية فى أواخر ستينيات القرن الماضي، وظلت علاقتهما ودودة طوال ذلك الوقت قبل أن تفرق بينهما مواقف سياسية وصعود الثانى ليتولى أرفع منصب دولى فى العالم.

ولكنهما افترقا فى النصف الثانى من سبعينيات القرن الماضي، كان الفراق الأول اضطراريا ، لم يرجه أى منهما، فقد غادر هيكل الأهرام بعد خلافه الشهير مع السادات عقب توقيع اتفاقية فك الاشتباك الأولى بين القوات المصرية والاسرائيلية فى سيناء فى يناير 1974، وظل غالى يرأس تحرير السياسة الدولية والأهرام الاقتصادي، ولكن الفراق الأساسى كان سياسيا بعد أن وافق غالى على أن يلقى بثقله منفذا سياسة السادات فى السعى الى صلح مع اسرائيل من خلال المفاوضات وهو ماعارضه هيكل بشدة. كان كل منهما متسقا مع قناعاته. هيكل أصبح عروبيا بصلته الوثيقة بجمال عبد الناصر وظل يرى فى اسرائيل العدو الأساسى لكل تطلعات العرب للتحرر والتقدم والوحدة، ولم يكن يرى فى الصلح مع اسرائيل سوى استسلام كامل لشروطها. أما بطرس غالى فلم يعرف عنه حماس لسياسات عبد الناصر الاشتراكية التى أضيرت منها عائلته بتطبيق الاصلاح الزراعى على ما كانت تمتلك من أراض، ولكنه وهو أستاذ القانون الدولى كان يرى أن التسوية السلمية للصراعات هى السبيل الأول الذى يجب أن تتبعه الدول اذا كانت بينها أى خلافات، ومن ثم لم يكن يرى خطأ أو خيانة فى لجوء السادات الى التفاوض المباشر مع اسرائيل، ولم يتردد فى قبول منصب وزير الدولة للشئون الخارجية فى سنة 1977 ليخلف كلا من المرحومين اسماعيل فهمى ومحمود رياض على قمة الدبلوماسية المصرية، وينفرد بذلك مؤقتا بعد أن آثر المرحوم محمد ابراهيم كامل أن يترك منصب وزير الخارجية فى قمة كامب دافيد بعد أن صدمه مقدار التنازلات التى كان السادات على استعداد لتقديمها للوصول الى اتفاق مع مناحم بيجين رئيس وزراء اسرائيل فى ذلك الوقت.هذه الرؤية القانونية للصراع العربى الاسرائيلى هى التى دفعت غالى لمشاركة السادات جهود المفاوضات مع اسرائيل، وهى أيضا التى أثارت خلافا مع كامل فى كامب دافيد بحسب ما كتبه فى مذكراته.

لم يغفر هيكل لبطرس غالى دوره النشيط فى مفاوضات كامب دافيد أو معاهدة السلام بعدها بسنة، ولا سعيه بعد ذلك لاجتذاب الفلسطينيين للتفاوض المباشر مع الاسرائيليين أملا منه فى التزام الاسرائيليين بالسماح للفلسطينيين بمباشرة الحكم الذاتى فى الضفة الغربية وغزة اتساقا مع اطار السلام فى الشرق الأوسط الذى جرى الاتفاق عليه فى كامب دافيد، وربما كان الخلاف بينهما حول الموقف من اسرائيل واحدا من الأسباب التى جعلت هيكل حانقا على تولى بطرس غالى منصب الأمين العام للأمم المتحدة، وهو ما سجله فى كتاباته.

أيا كان أمر الخلاف بينهما فقد كان كل منهما استاذا بكل معنى الكلمة. تتلمذت شخصيا على كتب هيكل، وتلقيت العلم مباشرة من بطرس غالي، وكانت أولى كتاباتى الصحفية فى دورية السياسة الدولية بتوجيهه وتحت اشرافه. يندر أن يجود الزمان علينا فى مصر بمثل أى منهما. كان كل منهما نتاج عصر انقضى.


لمزيد من مقالات د.مصطفى كامل السيد

رابط دائم: