رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رؤى العالم
الأزبكية

هذه رواية تاريخية أخرى، لكنها تختلف فى الفترة الزمنية التى تعالجها وفى الهدف الذى تسعى إلى أن تحققه. إن رواية “الأزبكية”

التى صدرت عن الدار المصرية اللبنانية، هى رواية ممتعة حقا سهلة القراءة، بسيطة الأسلوب، ولذلك فهى رواية تصلح للقراءة التى تبتغى المتعة والتسلية على كل المستويات. ولكن الرواية مع هذا، رواية جادة تعالج موضوع الوطنية والوطن، ولهذا يهديها كاتبها إلى ذكرى والده الذى علمه فضيلة عشق الوطن، وما أحوجنا فى هذه الأيام إلى روايات تعلم شبابنا فى يسر وسلاسة معنى الوطن والوطنية ومبدأ المواطنة الذى نحن فى حاجة ماسة إلى الوعى به وتذكره فى كل جوانب حياتنا. وكاتب هذه الرواية الأستاذ ناصر عراق الذى سبق أن عرضت لأكثر من رواية من رواياته التى تبدأ برواية “أزمنة من غبار” (2006)، و”من فرط الغرام” (2008)، و”تاج الهدهد” (2012)، و”نساء القاهرة- دبى” (2014). وقد وصلت روايته “العاطل” إلى القائمة القصيرة فى جائزة البوكر العربية فى دورتها الخامسة (2012). أما رواية “الأزبكية” فهى رواية تدور أحداثها فى فترة الاحتلال الفرنسى على مصر، وتبدأ قبل مجىء الحملة الفرنسية إلى مصر بأعوام قليلة لتختتم صفحاتها بتولى محمد على الحكم فى مصر، مستخدما المكر والخديعة اللذين كان بارعا فيهما.

وللرواية بطلان هما المحوران الأساسيان للرواية، أما أولهما أيوب السبع فهو مصرى ورث صنعة النسخ عن والده، وثانيهما شارل وهو رسام فرنسى موهوب اشترك فى أحداث الثورة الفرنسية وماتت حبيبته روز ضمن أحداثها، ويبدو أن شعوره بالاكتئاب بعد وفاة حبيبته فى أحداث الثورة الفرنسية دفعه إلى ترك فرنسا والرحيل إلى مصر التى فتنته، فقرر الحياة فيها لفترة طويلة لينفس عن أحزانه عبر رسم لوحات لآثار مصر الفرعونية والإسلامية. وكلا البطلين فنان على نحو ما، يشتركان فى رهافة الإحساس والمشاعر، ولذلك كانا لابد أن يلتقيا ويتصاحبا، وذلك قبل أن تأتى الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1798. ويحرص الروائى ناصر عراق على أن يفتتح روايته بمقتطفات من الوثائق التاريخية التى تدور حول هذه المرحلة من تاريخ مصر؛ فيبدأها بمقتطف من الفيلسوف الألمانى ليبنتز من مذكرة “غزو مصر” التى قدمها الفيلسوف لملك فرنسا لويس الرابع عشر عام 1672، وقرأها نابليون بونابرت فتأثر بها كل التأثر إلى درجة أنه قام بتنفيذها. ويحشد ناصر عراق عددا آخر من الوثائق التاريخية يضعها فى مقدمة رواياته، كى يقرأها القارئ ويضعها فى اعتباره قبل القراءة أو يختزنها فى ذاكرته قبل القراءة كى تكون بمثابة إضاءات له توجه مساره فى القراءة والفهم فى آن. ويأتى بعد مذكرة ليبنتز مقتطف من خطبة نابليون إلى جنوده على متن السفينة لوريان فى عرض البحر المتوسط فى الثانى عشر من يوليو 1798، وكلمة له عند دخول القاهرة فى الرابع والعشرين من يوليو 1798، وبعد ذلك تأتى كلمة أخرى لنابليون، مخاطبا فيها أعضاء ديوان القاهرة من مركز القيادة بالإسكندرية فى الثانى والعشرين من أغسطس عام 1799، ثم مقتطف من رسالة كليبر القائد الثانى للحملة الفرنسية إلى مينو الذى سوف يكون القائد الأخير مدافعا– أى كليبر- عن توقيعه اتفاقية العريش المبرمة بينه والدولة العثمانية برعاية إنجليزية فى 18 يناير 1800 التى تقضى بجلاء جنود الحملة الفرنسية عن مصر، وتأتى بعد ذلك قطعة من رسالة الجنرال مينو القائد الثالث والأخير للحملة الفرنسية، وهو القائد الذى أشهر إسلامه ليتزوج من مسلمة ويصبح اسمه القائد عبد الله مينو بدلا من ﭽاك مينو، ثم قطعة من كتاب “مذكرات ضابط فى الحملة الفرنسية”، ثم جزء من كتاب “وصف مصر” الذى كتبه علماء الحملة الفرنسية فى مصر، ثم مقتطف من حديث الجبرتى عن زيارته للمجمع العلمى المصرى الذى أنشأه نابليون فى 1798، وبعده مقتطف من كتاب عمر مكرم نقيب الأشراف والشيخ عبد الله الشرقاوى وكبار التجار وهم يخاطبون محمد على فى منزله بالأزبكية، ليلة الثانى عشر من مايو عام 1805، وفقرة من رواية “الفرعون الأخير” للروائى الفرنسى جيلبرت سينويه. وأخيرا تختتم المقتطفات المأخوذة من النصوص التاريخية بكلمة لمحمد على يخاطب فيها الأمير الإنجليزى بوكلير عام 1837 من رواية “الفرعون الأخير” أيضا.

ونظرة واحدة إلى هذه المقتطفات التى تبدأ بها هذه الرواية نجد أنها متنوعة المصادر ما بين كتب التاريخ المختلفة ومذكرة فيلسوف يشرح فيها الفلسفة الاستعمارية التى أغرت نابليون بغزو مصر، ناسيا مبادئ الثورة الفرنسية عن العدل والإخاء والمساواة التى سرعان ما نسيها فى لهفة الأطماع الاستعمارية التى جعلته يتلهف إلى غزو مصر. وتختتم هذه المقتطفات برواية تاريخية طويلة للكاتب الفرنسى الذى تخصص فى الروايات التاريخية عن الشرق وهو سينويه الذى كتب رواية لافتة عن محمد على، وهى رواية تستحق التركيز عليها والعرض لها فى مقالات أخرى. ولم يأت ناصر عراق بكل هذه المقتطفات من كتب التاريخ ووثائقه ورواياته إلا لكى يعد ذهن القارئ لقراءة روايته منتبها إلى أن الحملة الفرنسية لم تكن سوى غزو استعمارى، وأن الحملة لم تخرج من مصر إلا بعد أن تحالفت الدولة العثمانية مع إنجلترا لكى تقفا بشدة من أجل إنهاء الحملة الفرنسية وإخراج الجيش الفرنسى من مصر كى تعود مصر مرة أخرى إلى حضن الإمبراطورية العثمانية، ويتولى حكمها مرة ثانية والٍ تعينه الدولة العثمانية، أى إن الرواية تنتقل من الغزو الاستعمارى الفرنسى كى تمهد لعودة النفوذ العثمانى ممثلا فى العلم العثمانى الذى يعود مرفوعا على القلعة بعد رحيل الحملة الفرنسية عن مصر. وقد كان الوجود العثمانى استعمارا آخر لا فرق بينه وبين الاستعمار الفرنسى أو البريطانى فيما بعد سوى أنه كان استعمارا باسم الإسلام هذه المرة. ومن هنا تبدو مشكلة الهوية الوطنية مشكلة أساسية بوصفها المحور الأساسى الذى تدور حوله الرواية، وهو قضية الاستقلال الوطنى والنزعة الوطنية التى لم تكتمل فى وعى المصريين خلال هذه الفترة بعد.

ونعود إلى شارل وأيوب السبع، وقد قلت إن الأول رسام جاء إلى مصر لتصوير آثار حضارتها الفرعونية والإسلامية، والثانى نساخ، أى إن كليهما فنان، فالخط أحد الفنون الإسلامية، والرسم فن من الفنون الجميلة، ولذلك تدور الرواية كلها بين شارل الذى تقودنا شخصيته إلى معرفة الجانب الفرنسى وأيوب الذى نعرف علاقاته بغيره من المصريين، وذلك منذ عام 1797 قبل مجىء الحملة الفرنسية بعامين إلى الخامس من نوفمبر 1805 وهو عام تولى محمد على الحكم واستقراره حاكما للبلاد. ومن المؤكد أن استقرار شارل الرسام فى مصر قبل مجىء الحملة الفرنسية إنما هو حيلة روائية يقصد إليها الكاتب كى يبعد شارل عن أية أطماع استعمارية ويحفظ له هويته الثورية التى ترتبط بمبادئ الحرية والعدالة والمساواة التى استشهدت حبيبته من أجلها، وظل هو محافظا على هذه المبادئ رافضا أطماع بونابرت الاستعمارية ومجىء حملته على مصر. ولذلك يلقن أيوب المصرى مبادئ الثورة الفرنسية من ناحية ومعنى الوطنية من ناحية ثانية. ولقد كانت الوطنية تختلط بالنزعة الدينية الإسلامية عند أيوب، ولذلك كان فرحا كل الفرح برحيل الحملة الفرنسية ورفع العلم العثمانى على القلعة بدلا من العلم الفرنسى. ولم يكن يرى فى العثمانيين غزاة لأنهم كانوا مسلمين، ولأن الخليفة العثمانى كان يحكم مصر وغيرها على أساس أنه الخليفة الإسلامى، وأن الرابطة التى تجمع الأتراك العثمانيين والعرب هى رابطة الدين الذى هو فوق الرابطة الوطنية. ولكن شيئا فشيئا يفهم أيوب أن الرابطة الوطنية هى الأحق، وأنه من المستحيل أن يحكم الأوطان إلا أبناؤها الذين يبذلون دماءهم رخيصة فى سبيلها ، مؤمنين بأن الرابطة الوطنية فوق رابطة الدين وأولى منها بالاعتبار، فالدين لله والوطن للجميع. ولذلك عندما يفرح أيوب برفع العلم العثمانى على القلعة، يفسد عليه شارل هذه الفرحة مؤكدا له أن فرحته الحقيقية ينبغى أن تكون عندما يرى علما مصريا مرفوعا على القلعة. وعندئذ يبدأ وعى أيوب فى التحول والانفتاح تدريجيا، فيدرك معنى الوطنية بالقدر الذى يدرك فيه ضرورة أن تكون مصر للمصريين.

صحيح أن هذه الفكرة لم تكن بارزة فى وعى الطليعة المصرية إلا فى مرحلة لاحقة ارتبطت بظهور شعار مصر للمصريين ثم مبادئ ثورة 1919 بعد ذلك بسنوات. لكن ليس هذا مما تحاسب عليه الرواية لأنها ليست ملتزمة بأحداث ووقائع التاريخ حرفيا بقدر ما نرى فى التاريخ أقنعة ومرايا للحاضر، ولأن مصر المعاصرة لا تزال تعانى فى سبيل استعادة هويتها الوطنية واسترجاع مبادئ ثورة 19 الوطنية المرتبطة بمبادئ المواطنة، فإن الفن يغفر للمؤلف تجاوزه وقائع التاريخ الجزئية ليؤكد هدفا كليا معاصرا بكل معنى الكلمة. فمصر التى نعيش فيها وتعيش فينا تعانى- ولا تزال- من خطر استبدال هويتها الدينية بهويتها الوطنية، ولذلك وجدنا من يتحدثون عن الخلافة وعن الرابطة الدينية التى كانت تربط مصر المسلمة بالعالم الإسلامى فى خلافة جديدة تستعيد أمجاد الخلافة الإسلامية القديمة.

وكان ذلك– ولا يزال- أساس الدعوة الإخوانية التى لم تنته تماما، فهناك من لا يزال يبثها كالسم فى العقول مثل الإخوان المسلمين والدعاوى السلفية التى تأتى هذه الرواية لكى تدحضها بلغة الفن والخيال، مؤسسة وعيا مدنيا وطنيا تستعيد به الهوية المصرية الوطنية عافيتها وقدرتها على المقاومة بالفن.

لمزيد من مقالات جابر عصفور

رابط دائم: