رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
قبل يومين، وفى حوار نشرته جريدة الشرق الأوسط الصادرة فى لندن، خرج علينا نائب رئيس وزراء تركيا فى ثوب الناصح الأمين مشيرا إلى أن بلاده ليست لديها مشكلة مع المصريين بل فيما سماه (الانقلاب العسكري)، وأن رفضهم هذا الانقلاب المزعوم ليس من أجل مصالح تركيا ولكنه من أجل الشعب المصرى وأنهم يريدون رؤية بعض الخطوات الإيجابية من النظام المصرى على الأقل إلغاء أحكام الإعدام. كانت إجابة المسئول التركى على سؤال سابق يشير إلى التطور فى العلاقات التركية السعودية وأنها وصلت إلى درجات غير مسبوقة فى التعاون وفى وحدة الرؤية للبلدين تجاه قضايا إقليمية عديدة أهمها سوريا، وهنا سأل الصحفى وهل سينعكس هذا التطور على الأزمة المصرية، فأجاب بما أشرنا إليه آنفا. ولا شك أن مفهوم الأزمة المصرية كما ورد فى الحوار هو مفهوم خبيث وسخيف معا، ويدل على سوء نية السائل، لاسيما من زاوية الإيحاء بأن مصر فى ورطة كبرى وأن حلها مرتبط بتدخلات تركية منفردة أو مع دول أخري. أما إجابة المسئول التركى فهى إجابة وقحة، وأقل ما توصف بأنها تدخل سافر ومرفوض فى الشأن الداخلى المصري، وفيها إيحاء ضمنى بأن مصر تسعى وترغب فى استعادة علاقاتها مع تركيا، ولكنهم هم المترفعون وهم الذين يضعون لذلك الشروط والضوابط وينتظرون من مصر أن تفعل ما يُطلب منها، على الأقل حسب ما أشار المسئول التركى أن تتدخل السلطة التنفيذية فى القضاء المصرى لتلغى أحكاما أصدرتها محاكم فى درجاتها الأولى ومازالت أمامها مراحل قضائية أخرى وتحكمها ضوابط قانونية صارمة. ومما يزيد من وقاحة الإجابة أن الرجل تحدث باعتباره يفهم ويدرك ما هى مصلحة المصريين أكثر من المصريين أنفسهم، وفى ذلك استعلاء استعمارى مرفوض جملة وتفصيلا. فالمصريون الذين ثاروا على غباء تنظيم دولى إرهابى وأسقطوا الأقنعة عنه وكشفوا زيف شعاراته هم الأقدر على معرفة ما الذى يفيدهم وما الذى يضرهم، وهم الأجدر بالحفاظ على هويتهم الحضارية الوسطية التى كادت أن تضيع على أيدى جماعة إرهابية وصلت للحكم فى لحظة سوداء لن تتكرر ثانية. فضلا عن ذلك فإجابة المسئول التركى تنضح كذبا، فلم يصدر عن أى مسئول مصرى ما يشير الى مساع أو محاولات لاستعادة العلاقات مع تركيا فى ظل رئاسة أردوغان التى أثبتت دوما أنها رئاسة عدوانية وشريرة وسبب رئيسى فى مشاكل الإقليم بتدخلاتها الفجة سياسيا وعسكريا واستخباراتيا، ولكونها ساعية فى خراب الدول والمجتمعات عبر تبنيها المنظمات والجماعات الإرهابية، متصورة انها بذلك تفتح الأبواب أمام استعادة تركيا الأردوغانية لخلافة وهمية ودور تاريخى سلطانى عثمانى ذهب مع الريح ولن يعود أبدا. وإذا كان هناك من يأمل فى استعادة علاقة طبيعية بين بلدين مهمين فى الإقليم، فعليه أن يوقف تدخلات أردوغان وأن يقنعه بتغيير سياساته الحمقاء، لا أن يشجعه على الإساءة إلى شعب عريق وأبي. وإذا كان الرجل ينصح بالتدخل فى أعمال القضاء المصرى حتى تنال مصر الرضا التركي، فليس عليه جناح، فرئيسه لا يبالى بأحكام القضاء ولا بسلطته، وفى الأعوام القليلة الماضية كانت له تدخلات مباشرة موثقة فى إقصاء رجال الإدعاء العام الذين كشفوا فساده وفساد أبنائه، وفى إبعاد القضاة الذين تشكك فى عدم ولائهم لرغباته الاستبدادية، كما انه أعلن صراحة قبل أسبوع واحد أنه لا يحترم أحكام القضاء، وذلك على خلفية قرار المحكمة الدستورية العليا بالإفراج عن صحفييْن تم سجنهما دون محاكمة، واللذان كشفا بالصوت والصورة حقيقة توريد الاسلحة التركية إلى عصابات داعش فى سوريا، وأمثالها من الجماعات الإرهابية. وحين يطلق رئيس مواقفه النارية تجاه أعلى سلطة قضائية فى بلاده، فلنا أن نتصور حقيقة قناعاته التسلطية بشأن مؤسسات الدولة التى يُفترض عملها ضبط أداء أكبر مسئول وفقا للقوانين والدستور، وليس الانصياع لرغباته الاستبدادية. والراجح أن كل من ينتمون إلى جماعات إرهابية سرية أو انتموا إليها يوما من الأيام وشاءت الظروف إن منحتهم فرصة الحكم، فإنهم لا يطيقون القضاء المستقل، ويعمدون إلى حصاره وتحويله إلى قضاء ملاكى تحت السيطرة، تماما مثل ما شهدناه بأم أعيننا إبان حكم الرئيس المعزول بالإرادة الشعبية المصرية حين سعى إلى رفد عدة آلاف من القضاة الثقاة، وسمح بحصار المحكمة الدستورية العليا من قِبل ما عرف بأبناء (حازمون) الذين تسربوا لاحقا وانخرطوا فى جماعات الإرهاب فى سوريا وليبيا. وإذا كان لدينا من نصيحة لصانع القرار المصري، فهى ببساطة أن لا يذهب أحد إلى أنقرة للمشاركة فى القمة الإسلامية المقرر عقدها فى أبريل المقبل، فلا شيء مأمون من أردوغان، وما يجرى فى تركيا الآن يؤكد أنها فى محنة كبرى وأنه شعبها يئن تحت وطأة استبداد غير مسبوق، وهى سائرة إلى المجهول مادام أردوغان على قمة السلطة وساعيا إلى الاستفراد بها عبر فرض دستور رئاسى استبدادى يطيح بكل معايير استقلال السلطات والتوازن فيما بينها، والضرب بيد من حديد لكل من يتجرأ على نقده، وحسب اعتراف وزير العدل التركى بكر بوزداغ بأن عدد الدعاوى التى تقدم بها رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان إلى القضاء، ضد من اعتبر أنهم قاموا بتحقيره، بلغ 1845 دعوي، وبين هؤلاء نواب وزعماء سياسيون، لكن الغالبية العظمى من هؤلاء من الصحفيين والمواطنين العاديين.وجريرة هؤلاء أنهم تصوروا أن بلدهم ديمقراطيا يتيح لهم حرية التعبير عن آرائهم فى أداء رئيسهم. وأخيرا صادر الرجل الزمان وملحقاتها وهى الجريدة الأولى فى البلاد وأغلق أبوابها بدم بارد وبلا خجل، وسوف يحاكم أبرز محرريها لأنهم قدموا الحقيقة عن حكمه الاستبدادي. والإرهاب الذى راعته الاستخبارات التركية وبتوجيهات مباشرة من أردوغان فى سوريا والعراق وليبيا ومصر، قد بدأ يرتد عليها. ورغم الشكوك التى تصل أحيانا إلى حد اليقين بأن كثيرا من الأعمال الإرهابية الدنيئة التى راح ضحيتها أكراد تركيا هو من صنع الأجهزة الأمنية التركية الرسمية ذاتها، فإن حوادث إرهابية أخرى تبدو من أفعال جماعات وأفراد نالوا تدريبهم وتراكمت خبراتهم من خلال الواقع المرير الذى خلقته تركيا فى سوريا وفى أماكن أخري. فمن احتضن الثعلب يوما فلا يأمن مكره. لمزيد من مقالات د. حسن أبو طالب