رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

زكى نجيب محمود
من ركيزة الأصالة
إلي نداء المعاصرة

أحمد علي بدوي
في أول أيام فبراير من هذا العام مرت مائة سنة وسنة علي ميلاد مفكرنا وأستاذ مفكرينا الدكتور زكي نجيب محمود‏.‏ ورحلة حياته البادئة في غرة فبراير سنة‏1905‏ حتي غيابه عنا في الثامن من سبتمبر سنة‏1993,‏ تهدينا إلي محطات‏.

أو فلنقل إلي مرتقيات. ففي هذه الرحلة خير تمثيل لقول أحد حكماء العصر إن كل من ارتقي في درج الحكمة سلمة تلو أخري, إنما أمكنه ذاك بفضل معاونته علي اللحاق به من بلغوا السلمة التي تدنوها مباشرة!
وقد كان لزكي نجيب محمود فضل معاونته علي الارتقاء أجيالا من تلاميذه في قسم الفلسفة بآداب جامعة القاهرة في مرحلة الليسانس, ومن منهم أعدوا رسائل جامعية تحت إشرافه, وبالمثل فضل معاونته علي الارتقاء- والاستنارة- العديدين من قرائه, بدءا من جيل قرأ مجموعة مقالاته جنة العبيط, حيث جمع بين الخيال, الشرود والإحساس المرهف بالواقع, بأسلوب تحليلي هو نفسه المتسمة به فلسفته; فاحتلت المجموعة موقعها في المكتبة العربية إلي جانب مجموعات مقالات أحمد أمين والمازني والعقاد ومصطفي صادق الرافعي, ومرورا بأجيال من قرائه, إلي من تابعوا سلسلة مقالاته في الأهرام بعنوان بذور وجذور, وحتي من هم بعد رحيله قرأوها في مجلد تربو صفحاته علي أربعمائة صدر في أول أيام عام1995!
من مرتقيات زكي نجيب محمود فوزه المبكر بجائزة الدولة التشجيعية في عهد الرئيس جمال عبد الناصر, عن كتابه نحو فلسفة علمية. ومنها فوزه بجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية لسنة.1975 ويومها وأنا محرر بالقسم الأدبي برئاسة الدكتور لويس عوض, أوفدني إلي الفائزين بالجائزة لأجري حوارات للأهرام. وعلي هامش الحوار مع الدكتور زكي نجيب محمود الذي نشر في يناير سنة1976 بالصفحة الأدبية- روي لي أنه بعد انتهاء بعثته العلمية إلي إنجلترا وإتمامه بالجامعة رسالته للدكتوراه في الفلسفة عن الجبر الذاتي, استمع إلي محاضرة لمشتغل بالفلسفة هو أ.ج. إيرA.J.Ayer الشهير بكتابه اللغة والحقيقة والمنطقLanguage,TruthandLogic, فاجتذبه حديث ذلك الفيلسوف البريطاني العائد عندئذ لتوه من النمسا حيث شارك في اجتماعات حلقة فيينا ونقاشاتها: حديثه عن مذهب فلسفي كان أعضاء الحلقة رواده, وعرف باسم الوضعية المنطقية. والحق إن لأسلوب إير في الشرح والتفصيل جاذبية شهد بها من تابعوا لقاءاته علي شاشة التليفزيون البريطاني, ومنها ما لخص فيه بعبارة جزلة تاريخ الفلسفة بأكمله وما أتي به هذا المذهب من جديد, قائلا إن الفلسفة طفقت تتحدث عن كل شيء, منذ القرن السادس قبل الميلاد حيث السابقون علي سقراط الذي أبلغنا أفلاطون بآرائه, ليوالي ذلك جميع من جاءوا بعدهما حتي القرن الثامن عشر, حين جاء إمانويل كانط فنادي بجعل موضوع الفلسفة الحديث عن العالمtalkingabouttheworld, ثم في القرن العشرين جاء الوضعيون المناطقة فجعلوا موضوعها الحديث عن الحديث عن العالمtalkingabouttalkingabouttheworld!
هذا هو المذهب الذي تبناه مفكرنا إثر عودته إلي الوطن وتحمس له في مؤلفاته العلمية كافة, وفي مقدمتها كتابه المنطق الوضعي, وكتاب له عن فيلسوف القرن الثامن عشر ديفيد هيوم, وآخر عن فيلسوف القرن العشرين برتراند رسل. في كتابه المنطق الوضعي يطلب منا المؤلف أن نتحقق من أي بيان يذكر لنا علي النحو التالي: بالتساؤل عما إن كان شكل العالم( أي البيئة التي ندركها بحواسنا) يختلف في حالة صدق هذا البيان عنه في حالة كذبه. فإن كان فإن البيان مشروع, حتي إن كان في بعض الأحيان كاذبا وفي غيرها صادقا. علي سبيل المثال: خلف هذا السور حديقة, فأستطيع تصور الحديقة في حالة صدق البيان بمثلما أستطيع تصور خرابة قاحلة خلف السور في حالة كذبه. أما بيان من قبيل إن سبب العاصفة هو جولة أبوللو بمركبته! كما كان الإغريق يقولون, فلا مشروعية له, ففي المستطاع تصور العاصفة بنفس شكلها في كلتا الحالين: صدق البيان وكذبه. هذا التطلب هو حجر الأساس في مذهب الوضعية المنطقية.
وفي مؤلفه ديفيد هيوم نقرأ لفيلسوفنا قوله إن ديفيد هيوم يعد أبا لحركة فلسفية تعاصرنا اليوم ونعاصرها, وهي الحركة التي يطلق عليها أنصارها اسم الوضعية المنطقية حينا, واسم التجريبية العلمية حينا آخر, ويضيف أنه هو ينتمي إلي هذه الحركة الفلسفية, مشيرا إلي سبق هيوم إلي التفرقة بين ضربين من المعرفة لا ثالث لهما: الضرب الأول هو المعرفة التي تنحصر أطرافها في رأس صاحبها, إذ تكون تحديدا للعلاقات القائمة بين فكرة وفكرة, ومن هذا بيانات علم الرياضة: من قبيل مجموع زوايا المثلث يساوي2 ق. فهذه هي القضايا التكرارية التي لا تخضع للمعيار الذي طالبنا بتطبيقه فيلسوفنا, لأن مشروعيتها ترجع إلي اتساق النتائج من المقدمات لا إلي إمكان اختلاف شكل المحسوس في حالة صدقها عنه في حالة كذبها.
أما الضرب الثاني من المعرفة فهو ما ينبؤنا عن أمور الواقع: هو الحديث عن العالم الذي قال إير إن كانط- المتأثر بهيوم حدد مهمة الفلسفة فيه.
لذا أورد زكي نجيب محمود ترجمته لقول ديفيد هيوم: لو تناولنا كتابا كائنا ما كان, فلنسأل: هل يحتوي علي تدليلات مجردة خاصة بالكم والعدد؟ كلا. هل يحتوي علي تدليلات تجريبية خاصة بأمور الواقع والوجود الفعلي؟ كلا. إذن فألق به في النار, لأنه يستحيل أن ينطوي علي شيء غير سفسطة ووهم!, ولم يورد ترجمته هذه في كتابه عن ديفيد هيوم فحسب, بل وفي كتابه عن برتراند رسل هو الآخر.
وفي كتابه برتراند رسل يعاود فيلسوفنا التعرض لمذهب الوضعية المنطقية, قائلا: قد حددت عقيدتي تحديدا جليا واضحا, وإني لأزداد إيمانا يصواب هذه العقيدة كلما ازددت قراءة ودراسة وتفكيرا, فأنا أميل بفكري نحو الوضعية المنطقية, التي تحرم علي الفيلسوف أن يقول عبارة واحدة يدلي فيها برأي في الطبيعة أو الإنسان; وإذن فلا تكون الفلسفة إلا تحليلا صرفا, أو إن شئت فقل إنها تصير منطقا بحتا, وتلقي عن عاتقها ذلك الحمل الثقيل الذي تصدت له فيما مضي: حمل الحديث عن الكون في أصوله وغاياته, وهو حديث لم ينته به الفلاسفة إلي شيء, لأنه حديث في غير موضوع من هذه الموضوعات التي يجوز فيها الكلام علي نحو منتج مفيد. ذلك الحمل الثقيل: حمل الحديث... إلخ, هو ما عناه إير بقوله عن الفلسفة إنها لم تكف عن التحدث في كل شيء حتي جاء كانط. ويستطرد زكي نجيب محمود قائلا إن ذلك الرأي- في الطبيعة أو الإنسان- هو من شأن العلماء وحدهم, يدلون به بعد الملاحظة والتجارب العلمية. أما عمل الفيلسوف فهو تحليل العبارات التي يقولها هؤلاء العلماء تحليلا يوضحها ويضبطها. وهذا التحليل الذي جعل منه زكي نجيب محمود الواجب الأوحد علي الفيلسوف, هو الحديث عن الحديث عن العالم علي حد قول إير في عبارة تعمد أن يجعلها جزلة, كي تبلغ مشاهد التلفيزيون والقارئ غير المتخصص.
أخيرا فإن ظن أحد أن تجاوب زكي نجيب محمود مع نتاج أحدث الأفكار العالمية في عصره بل وإسهامه في هذا النتاج- أغناه عن الالتفات إلي التراث الشرقي, فما علينا إلا أن نذكره بمرتقي آخر من بين مرتقيات زكي نجيب محمود المشهودة. وهو إشرافه علي ترجمة إلي العربية كلفت بها الدولة ثلاثة من تلامذته, لموسوعة أورمسونJ.O.Urmson ذات القيمة الرفيعة:ConciseEncyclopediaofWesternPhilosophyandPhilosophers, لتصدر في سلسلة الألف كتاب بعنوان الموسوعة الفلسفية المختصرة, سنة.1963 لكنه لم يكتف بالإشراف أو بالمراجعة, بل أضاف إلي الموسوعة التي شمل أصلها الإنجليزي فلاسفة من أراضينا بينهم ابن باجة وموسي بن ميمون وابن رشد وابن سينا: أضاف شخصيات أخري من تراثنا الشرقي, كابن خلدون وابن طفيل وإخوان الصفا والبيروني وأبو بكر الرازي والغزالي والفارابي. وكذلك له- في سلسلة أعلام العرب التي كانت تصدر في ستينيات القرن العشرين- كتاب عن عالم سوري الأصل قال عنه الفيلسوف الإنجليزي فرانسيس بيكون إنه أبو الكيمياء, هو جابر بن حيان, وحيث قارن بين أصحاب المناهج العلمية في الغرب وبينه, مثبتا أصالته. وبذا وبغيره من الشواهد- حق أن يقال عن زكي نجيب محمود إنه جمع إلي المعاصرة الأصالة, بل جعل للمعاصرة أساسا من الأصالة. لقد وجد لما في الغرب أساسا من الشرق: الشرق الفنان, كما دعاه في أحد كتبه الأخري الرائعة!

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق