رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

ســـــــــر الخازينــــــة رقــــــم (24) !!

خطوات مهرولة راحت تدب فى الممر الطويل، بدت وكأنها لبشر ينتوون التوجه إلى باب زنزانة بعينها من عنابر السجن الكبير؛ وقد زاد من القلق فى نفوس المساجين توقف الخطوات فجأة، وانبعاث صوت شخللة مفاتيح، ولم يكن صاحبنا يفهم سببا أمام فتح باب سجنه فى هذا التوقيت وهو يسمع صوت المفتاح يدلف إلى داخل الباب الصدئ، وما هى إلا لحظات حتى سمع صوت مفصلات الباب الحديدية تعوى ببطء من جراء الدفع، فلما اكتمل الفتح ودلف الضوء يبعثر ذرات غبار بالمكان ظنها صاحبنا ساكنة سكون ليل السجن الطويل ونهاره وجل أيامه، انتفض واقفا وهو يرى القادمين ينادونه أن هم معنا!

تهاوت إلى ذاكرة اللص المخضرم فى فتح أعتى الخزائن ذكريات لحظة القبض عليه؛ ومشاهد التحقيق معه، ومشاهد المحاكمة، ولحظة الحكم عليه، فراح عقله يترنح كبندول الساعة الممل مابين يأس ورجاء: ترى هل ينتوون الإفراج المبكر عني؟ أم ترانى سأحاكم بتهمة جديدة؟ أم تراه الإعدام مثلا؟ ولكن جريمتى لاتستحق الإعدام! إذن، إلى أين يقتادنى هؤلاء الآن...؟ جميعها أسئلة راحت تتبادر إلى ذهنه المرتبك بعدد خطواته الأكثر ارتباكا نحو مكتب المأمور.

وفى مكتب مأمور السجن، استهل الرجل كلامه إلى اللص الشهير بأنه قد وقع الاختيار عليه للقيام بمهمة (وطنية) تحتاج لخبراته!! واستكمل: سوف يقتادك هؤلاء إلى قصر عابدين رأسا الآن؛ فلقد أطاحت ثورة بملك البلاد المفدى فاروق الأول إلى غير رجعة، وبجرد القصر تبين وجود 24 خازينة مؤصدة يراد جردها؛ فلما تعذر فتحها بشتى الطرق، كان أن تلقينا إخطارا رسميا بضرورة اختيار شخص مخضرم فى هذا المجال لفتحها، ولقد وقع اختيارنا عليك بموجب (سجلك الحافل) فى هذا التخصص!!

استعدل اللص ياقة بدلة السجن بكثير من هدوء وفخار (مهمني) جاهد أن يخفيه، ولكن خطواته إلى خارج المكتب كادت تفصح عنه؛ فصحيح أنه لص سجين، ولكنه الآن (خبير) ينتظر الجميع قدومه الميمون... فياليت قومى يعلمون بقدرى وقت أن عجزت العقول وانسحقت الحيل؟

سيارة (ميرى) كانت فى انتظاره، سرعان ما انطلقت به إلى (خارج الأسوار)، يحفه الحراس فى غمار موكب مهيب، يظنه المارة بالشوارع لشخص ذى مكانة، وهو فى حقيقته مجرد موكب لتأمين لص حقير!! دلف الموكب إلى بوابة القصر، فتم فتحها على مصراعيها، وماهى إلا خطوات قليلة حتى وجد صاحبنا نفسه يتجول بداخل قصر لم يكن ليحلم بالمرور قريبا من أسواره! دخل اللص إلى المكان المطلوب، فوجد أعضاء لجنة الجرد تقف بانتظاره عاجزة أمام 24 خازينة (ملكية) ربما تحوى كثيرا من أسرار (وغير ذلك بالقطع)، وقد استشعر أهميته وجميع الأنظار معلقة نحوه تنتظر إِشارة البدء، فلما شرع يخرج من جيب سترته نظارة طبية، حالت الكلابشات دون ذلك، فما هى إلا نظرة عتاب شاردة منه نحو رئيس اللجنة، حتى أصدر الأخير أوامره لقائد التأمين بحل القيود، فلما فعل، شرع اللص يقترب من الخزائن يعاينها بعين (خبير)، وربما بالغ فى الفحص، برغم علمه بسهولة المهمة قياسا بخزائن أشد عصيا فتحها فى ظروف عمل أشد وطيسا!

(من أى خازينة ستبدأ)؟ هكذا سأل أحد الأعضاء اللص، فلم يجبه وهو يضع أحد أذنيه على باب إحدى الخزن متظاهرا بشىء من التركيز، فلما انتهى أجابه ( سنبدأ من الخازينة رقم 1 من اليمين)!

وبالفعل، بدأ صاحبنا العمل بطول يوم طويل، يفتح الخازينة تلو الأخرى واللجنة تجرد (الأسرار)... وهكذا حتى جاء موعد فتح الخازينة الأخيرة ــ رقم (24)؛ فهى بالنسبة للجنة آخر خطوة لإتمام عملها، وبالنسبة له هى آخر خطوة على درب الإحساس بالأهمية والاحترام؛ وأول خطوة على طريق العودة إلى (السجن)! تلكأ صاحبنا فى فتح الخازينة الأخيرة قدر ما استطاع، ولكن الليل كاد ينتصف ليعلن انتهاء 24 ساعة وكذا انتهاء فتح 24 خازينة، فما إن فتحها ودلف الضوء إلى داخلها يبعثر ذرات غبار ظنها الجميع ساكنة سكون عهد مستقر مستبد(هكذا قيل للناس) ما إن فتحها حتى كانت المفاجأة: لقد اكتشف الجميع أن مفاتيح الخزائن الـ23 الأخرى كانت كلها موجودة داخل الخازينة الأخيرة ــ رقم (24)!! ويكأنه لو أن صاحبنا قد بدأ من الاتجاه المعاكس لكان قد وفر كثيرا من الجهد والخسائر الناجمة عن (عنوة اللصوص)؛ ولو أن اللجنة استعانت بأحد (العارفين) بالمكان لاستفادت أكثر! ... إن ما قصصته عليك لتوى هى أحداث واقعة تاريخية، صحيح أننى قد غلفتها بكثير من خيال أدبى حين السرد تشويقا وإمعانا فى الرمزية، ولكن الواقعة حدثت، وأعتقد أن التنازل (السريع) عن العرش كان وراء ارتباك المشهد الثورى عموما إلى يومنا هذا؛ إذ أننا وجدنا أنفسنا وجها لوجه أمام خزائن عدة كانت الخزائن الـ24 تلك تمثل فيها مجرد نقطة فى بحر دولة مليئة بالأسرار والطلاسم، وليس كل طلسم كان بالإمكان حل شفرته بالأسلوب نفسه، وإن تشابه الأمر فى أن نقطة البداية كانت غالبا خاطئة، فكانت النهاية دائما ماتحمل المفاجآت الأليمة؛ تشابه الأمر فى أننا فى (كل) مجال كنا نختار (ولم نزل) أشخاصا من ذوى الصيت الزائف نصنع منهم نجوما ونصدقهم ونتغزل فيهم ولا نأتى بأهل الخبرة أو العلم أبدا إلا فيما ندر، حتى أننى أكاد أجزم بأننا أصبحنا محترفين فى سوء الاختيار!!

وأنا لا أعنى هنا توجيه اللوم لنظام حكم بعينه منذ ثورة 1952، وإنما أعنى نمطا مجتمعيا أصبح يشكل سمة عامة (فى كل موقع اختيار) راحت تفتح الأبواب (تدريجيا) لاستقرار (أخطر تنظيم) أراه محدقا بهذا البلد ــ ألا وهو تنظيم الهواة و(تأدباً) المدعين ؛ وهؤلاء لن يسمحوا (يوما) بظهور يذكر لبادرة محترفين!

لمزيد من مقالات أشرف عـبد المنعم

رابط دائم: