رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

اللغـــة تكشـــف.. ونحــن نســـتتر!

لو كانت مشكلتنا مع اللغة محصورة فى أخطاء نقع فيها ونحن نتحدث كانت إذن هينة محتملة. لأن الوقوع فى الخطأ مع الحرص على تجنبه وارد. والمؤرخون القدماء يحدثوننا عن الخليفة الأموى الذى كان يشعر بالرهبة حين يقف ليخطب فى الناس فيخاف من أن يلحن ويقول فى ذلك إن صعود المنابر قد شيبه قبل الأوان.

وتاريخ الأدب يحدثنا عما قاله الشاعر القديم الذى لامه أحد النقاد على خطأ وقع فيه فأجابه الشاعر: علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا! أى على الشاعر أن ينظم الشعر، فان وقع فى خطأ فعلى الناقد أن يؤوله أو يفسره تفسيرا يجعله وجها من وجوه الصواب بدلا من أن يقطع بأنه خطأ.

وقد حدثتنى نفسي، والنفس أمارة بالسوء، أن أقف لعميد الأدب العربى رقيبا مترصدا لأرى هل يمكن أن يقع الأستاذ العميد فى زلة من زلات اللسان؟ وكان ذلك على ما أذكر منذ تسعة وخمسين عاما وأنا شاب فى الثانية والعشرين من خرط بحماسة فى حركات التجديد أتحرش بالكتاب والشعراء المحافظين وأتسقط أخطاءهم وقد انعقد مؤتمر الأدباء العرب فى القاهرة ووقف عميد الأدب يفتتحه بكلمة ضافية قررت ألا انتبه فيها إلا لشيء واحد هو علامات الاعراب التى سها عنها الأستاذ العميد مرة أو مرتين!

الخطأ وارد إذن. ونحن كلنا معرضون للوقوع فيه. ولهذا نستطيع أن نتسامح معه. أما الأمر الذى لا نستطيع أن نتسامح معه ولا يصح أن نسكت عليه فهو الاستهتار باللغة وانعدام الشعور باحترامها. وهذا هو ما نشكو منه فى هذه الأيام ونعتبره خطرا ماحقا يهدد اللغة ويهدد وجودنا كله. فلاشيء يمثل الوجود الإنسانى أكثر من اللغة. ولا خطر يهدد الوجود الإنسانى والوجود الوطنى خاصة أكثر من تدهور اللغة وانحطاطها. وما علينا إلا أن نتذكر العبارة التى نعرف بها الإنسان ونميزه عن غيره من الكائنات الحية.

الإنسان حيوان ناطق. أى أنه وحده الحيوان الذى استطاع أن يتكلم. والكلام ليس مجرد أصوات ننطق بها. وانما الكلام أفكار وصور ومشاعر نترجمها إلى أصوات نصطلح عليها ونتخذها لغة نفكر بها ونعبر بها ونتواصل ونتفاهم.

معنى هذا أن اللغة تفكير وتعبير فى وقت واحد. واللغة إذن هى العقل فى كامل حضوره وامتلاكه لنفسه وللعالم المحيط به. من هنا أصبح النطق منطقا وأصبح التفكير أساسا للوجود الذى لا يكفى فيه أن يكون مجرد نقيض للموت، وانما يجب أن يكون وجودا إنسانيا. فهو وجود يعى ذاته، ويتمثل حضوره، ويمارس قدرته على الفعل. وهكذا عرف الفيلسوف الفرنسى ديكارت الإنسان بوصفه كائنا عاقلا فقال: أنا أفكر. إذن أنا موجود!

وقد يظن البعض أن ما أقوله هنا عن اللغة والوجود لا يخلو من مبالغة وتهويل، لأن هذا البعض يرى أن الوجود يتوقف على الشروط المادية الملموسة أكثر مما يتوقف على اللغة وعلى امتلاكنا لها، كما يرى أن الأخطاء اللغوية التى يقع فيها معظمنا لا تمعنا من أن نتفاهم مهما يكن حجمها. بل ان البعض يعتقد أننا لسنا محتاجين دائما للصواب. فالصواب مرتبط بالحاجة للتدقيق والتحديد والتوضيح. ونحن أو الكثيرون منا يتهربون من التدقيق والتحديد ومن الصراحة والوضوح، لأنهم يتهربون من رؤية الأشياء على حقيقتها ومن الاعتراف بالواقع ومن الالتزام بما يفرضه هذا الاعتراف عليهم، ومن هنا يسندون كل فعل فى حديثهم لفاعل مجهول، ولا يقطعون برأي، ويلجأون فى ذلك للغة تستر أكثر مما تكشف، وتقول دون أن تقول. وفى هذا الضوء نستطيع أن نفهم مشكلتنا مع اللغة ومع ما يتصل بها على نحو أفضل.

> > >

نحن نستخدم لغتين كل منهما عاجزة عن أن تلبى ما نحتاج إليه فى هذا العصر الذى نعيش فيه. فالدارجة التى نتفاهم بها فى الحياة اليومية لا تلبى ما نحتاج إليه فى حياتنا الثقافية. والفصحى التى نتعلم بها ونكتب أعمالنا الأدبية وأبحاثنا الفكرية والعلمية معزولة فى هذا النطاق بعيدا عن الحياة والواقع.

ثم ان العامية لا تسعفنا فى كل شئون الحياة اليومية. ولو راجعنا المفردات التى نستخدمها الآن فى البيع والشراء، وفى الطعام والشراب، وفى العمل والسفر لوجدنا أنفسنا فى برج بابل. والفصحى أيضا لا تسعفنا فى كل مطالبنا الثقافية والعلمية. وفضلا عن أن اللغتين عاجزتان كلتاهما فى ناحية من نواحى الحياة فهما ليستا متكاملتين، بل هما طرفان متباعدان يعبران عن واقع منقسم على نفسه: الأميون فى جانب، والمتعلمون فى جانب آخر. الثقافة الشعبية محرومة من عناية الدولة. والثقافة الرفيعة محرومة من عناية الشعب. وفى الوقت الذى عجزنا فيه عن محو الأمية عجزنا عن أن نضمن للتعليم المصرى ما يرفع مستواه ويحقق له فى مراحل التكوين الأولى وحدته ووطنيته.

التعليم المصرى تراجع وأصبح موزعا بين مدارس الدولة الوطنية والمعاهد الدينية الأزهرية ومدارس اللغات الأجنبية. والعقل المصرى ضحية لهذا الوضع المزرى الذى انهار فيه المستوي، واهتز الأساس الوطني، وانفسح المجال أمام النزعات الطائفية والتأثيرات الأجنبية.

ومن الطبيعى أن تنعكس هذه الأوضاع السلبية على الواقع فى شتى المجالات وتطبعه بطابعها. إذا كانت الأمية الأبجدية تعصف بما يقرب من أربعين مليونا من المصريين والأمية الثقافية تعصف بالباقين فكيف يمكن لمصر أن تعوض ما فاتها وتلحق بالعالم المتقدم وتتمكن من علومه وتتبنى مبادئه وتلتزم مواثيقه؟

كيف للمجتمع المصرى أن يتحرر، وللاقتصاد المصرى أن ينمو وللديمقراطية أن تزدهر فى مصر؟

ونحن نواجه منذ نصف قرن على الأقل ردة حضارية شاملة خسرنا فيها كل ما حققناه فى نهضتنا الحديثة، فهل كانت هذه الردة الشاملة بعيدة عن هذه الأمية المزدوجة الأبجدية والثقافية؟ وإذا كان الملايين من المصريين، عشرات الملايين، يحصلون على ثقافتهم من خلال رجال الدين وحدهم، الموظفين والمتطوعين الهواة والمحترفين، فماضينا وحاضرنا ومستقبلنا وأمننا وحريتنا وحقوقنا وحياتنا كلها مرهونة بما يقوله هؤلاء. إذا قال أحدهم للجالسين أمامه: لا تهنئوا المسيحيين بأعيادهم فمن هو الأمى الذى سيخرج من الهامش الذى يقبع فيه ليقول له: لقد افتريت على الله كذبا! وإذا قال لهم: ان التعظيم لا يكون إلا للرموز الدينية فلا تقفوا احتراما للنشيد الوطنى فمن هو الذى سيسكته ويخرجه من المجلس مذموما مدحورا؟ وإذا قال لهم: ان الدولة كافرة لأنها لا تطبق الشريعة ولا تعاقب بالجلد والرجم والقطع والبتر فلابد من تطبيق الشريعة ولو بالقوة ـ إذا أراد هذا المتعصب المتطرف أن يحول الجالسين أمامه إلى إرهابيين فلن يصعب عليه ذلك، لأن الأمية جهل وفقر وشعور حاد بالظلم والرغبة فى الانتقام. فإذا لم ينجح معهم جميعا نجح مع بعضهم. فان منعهم مانع من ممارسة الإرهاب فلن يمنعهم شيء من أن يصدقوا ما قاله هذا الإمام »الغيور« ويعتقدوا بالفعل أن الدولة كافرة وأن الخروج عليها جهاد فى سبيل الله!

أرأيتم إلى أى حد وصلت مشكلتنا مع اللغة؟ وإلى أى حد تفاقمت وأصبحت خطرا ماحقا يهدد حاضرنا ومستقبلنا؟

أليس من واجبنا أن نواجه هذه المشكلة الخطيرة بتعبئة عامة ننقذ بها لغتنا التى توشك أن تضيع؟ وأليس من حقنا أن نغضب حين نرى أن الخطأ فى اللغة لم يعد خطأ ولم يعد مقصورا على الأميين وانما تعداهم إلى غيرهم وأصبح استهتارا وعربدة؟!

لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي

رابط دائم: