رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

لغة البوح‏..‏ تنأي بالمملكة المغربية عن أوجاع الربيع العربي

العزب الطيب الطاهر
عبر زيارتين قمت بهما للمغرب في إطار مهمتين صحفيتين إحداهما في زمن الملك الراحل الحسن الثاني‏,‏ والثانية بعد فترة من تولي الملك الحالي محمد السادس وخلال حكومة عبد الرحمن اليوسفي‏,

القادم من رحم حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية, والذي كان يسكن في خانة المعارضة علي مدي سنوات طويلة, خرجت بإنطباعات عن المغرب: الشعب والقيادة والسلوك أهمها هذه النزعة للغة البوح, أي أن كل القضايا تخضع للحوار الهادئ بمنأي عن الصوت المرتفع والهادر, وإن لم تغب القبضة الأمنية الراصدة والمتحفزة للتعامل مع أي تجاوز أو إختراق للقانون, صحيح لم يكن الهامش الديمقراطي بهذا القدر من الاتساع الذي تشهده البلاد في المرحلة الراهنة, ولكن تاريخيا كان ثمة هامش يتسع ويضيق, وفقا لمعطيات المراحل المختلفة ونوعية النخب السياسية الحاكمة.
................................................................................................
ولعل ذلك يعكس نوعا من الذكاء السياسي إن صح استخدام هذا التعبير في المغرب,بما جعله بمنأي عن دفع كلفة عالية لخياراته بالذات في التعامل مع قضايا الداخل, وشهد هذا الذكاء عملية إنضاج واسعة بعد أن تولي الملك الشاب مقاليد الأمور, فمحمد السادس تربي في بيئة سياسية اتسمت علي الدوام بطابع أبوي بالمعني السياسي, أي أن هيمنة شخصية الملك الراحل الحسن الثاني- التي كانت تفرض حضورها علي الدوام بين النخب السياسية, والتي علي الرغم من كل التناقضات السائدة فيما بينها علي الصعيد الأيدولوجي, كانت تنظر بتبجيبل للملك وتراعي اعتباراته ومحدداته, غيرأنه بعد رحيله اختلفت الأمور نسبيا, ولم تنقص مساحة الاحترام للملك الجديد, والذي أبدي في خطبه الأولي احتراما للخيار الديمقراطي ولقواعدها الرئيسية, خاصة فيما يتعلق بقاعدة تداول السلطة, فهو ليس من مصلحته الانحياز لهذه القوة, أو تلك بدليل أن حزبا مثل حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية اليساري الهوي, تمكن من تأليف حكومة نجحت بشكل أو بآخر في تجسيد هذه القاعدة الذهبية تداول السلطة.
غير أن تجليات الذكاء السياسي في المغرب ظهرت بوضوح في التعاطي مع تداعيات ما سمي بالربيع العربي, والتي انطلقت هادرة في دولتين تنتميان لنفس الإقليم المغاربي, وهما تونس و ليبياودولة أخري قريبة هي مصر, ففي العشرين من فبراير2011 اندلعت سلسلة من الاحتجاجات تتبني مطالب قريبة من مطالب جماهير البلدان الثلاث, وقوبلت بإجراءات أمنية متشددة لمنع تمددها في مختلف المدن, ومع ذلك استمرت مما أشعل المشهد المغربي الداخلي, لكن دون أن تطالب بإسقاط الملك أو النظام الملكي, وإنما دعت الي الملكية الدستورية علي غرار الصيغة السائدة في دول مثل بريطانيا وأسبانيا وهولندا ومع استمرار الاضطرابات, اتخذ الملك محمد السادس قراره بإجراء تعديلات دستورية ثم إجراء انتخابات برلمانية مبكرة, ما أسهم في احتواء هذه الاحتجاجات وامتصاص موجات غضبه.
ففي التاسع من مارس2011, أي بعد بدء الاحتجاجاتبـ19 يوما وجه الملك محمد السادس خطابا متلفزا للشعب المغربي, ولم يكن ذلك غريبا لأن المغاربة اعتادوا رؤية ملكهم علي شاشة التلفاز في نشرات الأخبار كل مساء تقريبا, فهو إما يفتتح مستشفي جديد, أو مسجدا, أو مطلقا مبادرة لمكافحة الفقر. ودائما ما يري الشعب المغربي ملكه متواضعا وقويا ونشيطا, تعهد فيه بـوضع ميثاق جديد يربط بين العرش والشعب. وتضمنت التعديلات الدستورية التي اقترحها التأكيد علي سيادة القانون, واستقلال القضاء, وتعزيز دور رئيس الوزراء. والحد بشكل كبير من سلطة الملك, وتعزيز سلطة الحكومة المنتخبة, وهو ما أدي الي خفوت الأصوات الاحتجاجية ووقف الاضطرابات وبذلك تكون هذه الخطوات الإصلاحية التي قام بها العاهل المغربي قد أنقذت البلاد من الوقوع في مستنقع الاضطراب وعدم الاستقرار الذي دخلته دول الربيع العربي.
وفي هذا السياق, يعتبر الباحث الأمريكي جيمس تراوب في مقال له بمجلة فورين بوليسي االملك محمد السادس قد مضي في طريق ثالث فهو لم يشرع في اتخاذ إصلاحات محدودة, ولم يواجه كذلك ثورة من قبل المواطنين الغاضبين أي أنه اختار مسارا بديلا يقوم علي شراكة حقيقية بين الملك وحزب العدالة والتنمية الإسلامي, من شأنه أن يحقق إصلاحا أشمل مما كان سيمنحه القصر وحده, وهو ما جسد الخصوصية المغربية التي تؤكد أن المغاربة يحترمون الملكية كمؤسسة دينية, ويترقبون أن يعمل الملك محمد السادس بكل ما أوتي من قوة لقيادة البلد, وأن يكون حكما عادلا بين القبائل والفئات والمناطق المغربية, ومن جانبه لا يرغب الملك إلا في حكم البلد بطريقة غير سلطوية,وهو ما جعله يوافق علي إصدار دستور جديد يحد من سلطاته بشكل كبير.
وبذلك يمكن اعتبار المغرب حالة منفردة ضمن نادي الملكيات; وذلك من حيث انتهاج سياسة متوازنة في علاقته; سواء مع التجارب التي تمثل اتجاه التحول والثورة من جهة, أو مع القوي المضادة للثورات من جهة أخري, فهو يبدي حرصا علي ضبط علاقته مع حلفائه التقليديين; الذين لاشك أن لديهم تحفظاتهم التي لا يعلنون عنها تجاه وضع الإسلاميين في السلطة بالمغرب; خصوصا مع سياساتهم الاجتماعية التي تزيدهم تجذرا في المشهد السياسي, وكذلك تقدمهم في مستويات التطبيع مع أجهزة الدولة, ولم تبد الدبلوماسية المغربية إشارات للانجرار وراء سياسات حلفائه التقليديين تجاه قوي التحول في المنطقة, وقد أظهر كذلك انفتاحا واضحا علي الدول التي تعيش انتقالا سياسيا..
واللافت أنه في الوقت الذي يواجه فيه الإسلاميون أوضاعا داخلية وخارجية رافضة وصعبة في ليبيا, وضعف تأثيرهم في المشهد السياسي الجزائري والموريتاني, وتراجع حركة النهضة خطوة إلي الوراء في تونس; تبقي تجربة الإسلاميين المغاربة الوحيدة في المغرب العربي التي تستمر في التواجد في هرم السلطة حتي اللحظة; حيث نجح إسلاميو العدالة والتنمية في خطوة مهمة في علاقتهم بالمؤسسة الملكية, وتمكنوا من تحقيق قدر كبير من التطبيع مع الملكية ومراكز قوي داخل الدولة, وهي خطوة كانت مطلوبة لتأمين وحماية تجربة هذا الفصيل السياسي في فترة ما بعد الاحتجاجات التي عرفها المغرب عام2011, وفي مسار تعامله مع الدولة وجهازها الإداري الصلب, وذو الخبرة الطويلة في التعامل مع المجال السياسي.
ولاشك أن بعض المراكز القوية في الدولة, حاولت إعاقة تطور تجربة الشراكة مع الملكية; لكنها وجدت أمامها تحديين; أولهما: المرونة السياسية وقدرة الإسلاميين علي التوافق واستيعاب كثير من الفاعلين السياسيين, وثانيهما: وهو الأهم توجه المؤسسة الملكية نفسها للحفاظ علي التوازنات السياسية والاجتماعية للمغرب من الاضطراب.
وثمة اختبار صعب ستخوضه التجربة السياسية المغربية ذات الخصوصية تتمثل في الانتخابات البرلمانية, التي ستجري في الصيف المقبل والتي تشكل أمام مختلف القوي المغربية تحديا قويا, فإما أن تؤدي الي ترسيخ الخيار الديمقراطي المؤسساتي من خلال توازن وتعاون المجتمع والدولة,أو الرجوع إلي الوضع السابق, حيث هيمنة الدولة علي المجتمع ومن ثم تهميش المؤسسات والإطارات التمثيلية, وتقديري أن الخيار الأول هو الذي سيحظي بالقبول في ظل قناعة من الملك بضرورة التمسك بالنصوص الدستورية, التي وافق عليها وشكلت ميزة نسبية لبلاده في مواجهة تداعيات الربيع العربي, التي ما زالت تكابدها دول كثيرة في مقدمتها ليبيا المجاورة وسوريا واليمن والتي تكاد تضعها في خانة الدولة الفاشلة, فضلا عن ذلك فإن المضي في هذا الاتجاه يتسق مع طبيعة ومنهجية الملك محمد السادس, الذي ينزع الي التفاعل مع أشواق شعبه وليس الوقوف في وجهها.

رابط دائم: 
اضف تعليقك
البريد الالكترونى
الاسم
عنوان التعليق
التعليق