رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

وجبة المساء.. مع أندريه ميكيل!

أحاسيس مختلطة تنازعنى فيها الألم والخجل، والتصديق والتكذيب، والإعجاب والإنكار وأنا أقرأ يوميات أندريه ميكيل عن التجربة القاسية العنيفة التى عاشها فى السجون المصرية قبل أكثر من نصف قرن، ولكى يكون هذا الحديث مفهوما سأبدأ بشرح مفرداته التى قد يحتاج قارئ هذه الأيام لمعرفتها حتى يشاركنى ما شعرت به، أو يفهمه إن لم يشاركنى فيه.

وأندريه ميكيل مثقف فرنسي، نحتاج لأن نعرفه كما يحتاج الفرنسيون لأن يعرفوه، لأن ثقافتنا العربية كانت قضية حياته، وكانت شغله الشاغل الذى عرضه لما لقيه بعد أن وصل إلى القاهرة قبل أكثر من نصف قرن مكلفا بالعمل على استئناف العلاقات الثقافية بين مصر وفرنسا، بعد قطيعة دامت خمس سنوات.

كانت مصر تتزعم حركة التحرر العربية، وكان المصريون يقفون إلى جانب الثوار الجزائريين، ويؤممون قناة السويس فتتعرض بلادهم للعدوان الثلاثى الذى انتهى بانسحاب المعتدين، لكن العلاقات ظلت مقطوعة حتى قامت الجمهورية الخامسة فى فرنسا بزعامة شارل ديجول، الذى اعترف بحق الجزائريين فى تقرير مصيرهم، وهنا بدأ السعى لاستئناف العلاقات بين مصر وفرنسا، وفى مقدمتها العلاقات الثقافية التى رأى المسئولون فى البلدين أن يبدأوا بها.. وهكذا وصل أندريه ميكيل إلى القاهرة فى الرابع عشر من شهر سبتمبر عام 1961 حاملا معه ما كلف بأدائه فى إطار عمله فى الإدارة العامة للعلاقات الثقافية بوزارة الخارجية الفرنسية، فضلا عما كان يحلم بتحقيقه كمستشرق فى مجال الاتصال بالثقافة المصرية، وبالمثقفين المصريين.

لكن أندريه ميكيل لم يستطع أن يحقق شيئا فى مصر، لا أندريه ميكيل الدبلوماسى، ولا أندريه ميكيل المثقف، فلم يمض على وصوله إلا شهران حتى طرق عليه زوار الفجر المصريون باب شقته فى حى المنيرة ليحملوه فى سيارتهم متهما بتهم لم يستطيعوا أن يقدموا على أى منها دليلا واحدا، فهو مرة جاسوس فرنسي، وأخرى يهودى إسرائيلي، وعمله فى الخارجية الفرنسية ستار يخفى من ورائه نشاطه الحقيقي.

ومع هذه التهم التى كانت تنهال عليه من يمينه ويساره، ومن أمامه ومن خلفه.. تنهال عليه الصفعات، والركلات، واللسعات تحت الأنف بأعواد الثقاب المشتعلة، والتهديدات بما هو أفظع وأشنع، ويجرى هذا كله فى بلد غريب، وفى أماكن مجهولة، وأوقات ينتزع فيها من نفسه فيفقد فيها نفسه، ويفقد إنسانيته، ويتحول إلى شيء تتقاذفه الأيدى والأرجل والشتائم المقذعة، والضحكات الشيطانية.

> > >

قبل أن يدخل أندريه ميكيل هذه المحنة كان يتأمل الحوار الدائر على أطراف القاهرة بين الماء والرمل، وبين الصحراء والطمي، هذا الحوار الذى انبثقت منه مصر، البلد والأمة، والزرع والضرع، واللغة والثقافة، والفن والدين.

كان يرى القاهرة مدينة مشرقة مشعة، وكان يطالع فى سقارة عند سفح الهرم المدرج وفى قمته سماء شاحبة الزرقة، وكان يصيخ السمع لصوت أبى الهول وهو يتصاعد كأنه يتنفس من الظل الذى سكنه قرونا بعد قرون.

كان أندريه ميكيل يكتشف مصر التى أحبها، لأن مصر لا تخص نفسها، وإنما هى لكل البشر، هى الأرض الأم التى عرف فيها البشر أنهم بشر، وأنهم أخوة، وبهذا النظرة كان أندريه ميكيل يكتشف مصر. كان يكتشفها فى نفسها وهو يتنقل بين بحيرة مريوط ومدينة الإسكندر، وكان يكتشفها فى نفسه الممتلئة بصورها المكتوبة المقروءة المتخيلة.. وكان يغمض عينيه ليذهب بعيدا فى هذا الحلم الكوني، وفجأة حضر زوار الفجر فأخذوه إلى أمكنة أخري، وأزمنة أخرى لا يعرف فيها أحدا، ولا يعرف حتى نفسه، ويشعر كأنه يقف على الحافة بين العقل والجنون.

والتفاصيل كثيرة، وهى لا تعنى إلا شيئا واحدا هو الانقطاع عن كل شيء، ما عدا هذه البنايات التى تتقاذفه، وهذه الوجوه الغريبة التى تتهمه وتشتمه وتسخر منه، وهذه المصابيح الضارية المسعورة، وهذه المقاعد، وهؤلاء الرفاق السجناء.. فرنسيون يعملون معه، ومعتقلون سياسيون مصريون بعضهم يعرف الفرنسية، وتتخذ معرفتهم الفرنسية دليلا ضدهم، كما تتخذ معرفة أندريه ميكيل العربية دليلا ضده، ولصوص محترفون، وأرباب سوابق، ومحكومون بالإعدام يرتدون ملابس الموت الحمراء، وينتظرون لحظة التنفيذ كأنهم لا يبالون، وأندريه ميكيل فى هذا الفراغ الهائل الرهيب بين السابعة والثامنة مساء يجلس فى مواجهة الجدار وحيدا تماما، ومعزولا تماما، وغريبا تماما.

إنها وجبة المساء التى جعلها عنوانا لمذكراته، لكنه مع هذا كله لم يستسلم لرد الفعل، لم يكره المصريين، ولم يكفر بإنسانيته، ولم يتخل عن الثقافة التى تعلم من أجلها خمس لغات. ولم ييأس من جدوى الحوار، لقد عاد يقرأ باللغة العربية، ويطلب من محاميه مؤلفات نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم، وذلك فى الوقت الذى بدا فيه أن الحرب المشتعلة فى الجزائر سوف تضع أوزارها.

ففى الثامن عشر من شهر مارس سنة 1962 وقعت اتفاقية إيفيان التى نصت على وقف إطلاق النار بين ممثلى جبهة التحرير الجزائرية وفرنسا، بعد سبع سنوات من الحرب، وفى مونبلييه فى فرنسا تأسست لجنة للدفاع عن أندريه ميكيل تألفت من أساتذة وقساوسة وأطباء، ويوما بعد يوم تحسنت معاملة المصريين لأندريه ميكيل ولغيره من الفرنسيين المقبوض عليهم، وسمح للدبلوماسيين السويسريين القائمين برعاية المصالح الفرنسية برعايتهم، وقدموا للمحاكمة التى انعقدت آخر جلساتها فى اليوم السابع من شهر أبريل عام 1962 ليقف فيها ممثل النيابة طالبا من القضاة باسم المصلحة العليا تأجيل النظر فى القضية إلى أجل غير مسمي، وبعد دقائق من المداولة عادت هيئة المحكمة للانعقاد معلنة استجابتها لطلب النيابة، ثم أضافت إلى ذلك أن المتهمين سوف يطلق سراحهم هذا المساء!

هكذا تنتهى يوميات أندريه ميكيل التى ترجمتها الدكتورة رشا صالح إلى العربية، وصدرت عن المركز القومى للترجمة، وهى ترجمة بديعة، رغم مايمكن أن يكون لنا من ملحوظات تستدعى المراجعة.

> > >

هل انتهت القصة بالإفراج عن أندريه ميكيل وعودته إلى بلاده؟

لا.. لم تنته هذه القصة، لأن بطلها لم يتخل فى فرنسا عن حلمه الذى كان يطمع فى أن تساعده مصر على تحقيقه، وهو أن يجمع بين الثقافتين، ويسهم فى أن يحل الحوار بينهما محل الصراع الذى كان دائرا بين العرب والفرنسيين، وفى هذه المرحلة الأخيرة من القصة أستطيع أن أقدم شهادتي، فقد قدر لى أن أقطع الطريق الذى قطعه قبلى أندريه ميكيل، لكن بالعكس.

أندريه ميكيل جاء من باريس إلى القاهرة، وأنا رحلت من القاهرة إلى باريس، وكل ما حدث لأندريه ميكيل فى مصر حدث لى عكسه فى فرنسا، جاء ليقيم سنوات فلم يكمل ثلاثة أشهر، وذهبت لأقيم بضعة أشهر فى باريس أزور فيها معالمها الثقافية، وأتعلم ما أستطيع أن أتعلمه من اللغة الفرنسية، فامتدت إقامتى فيها سبعة عشر عاما متصلة، تعلمت فيها اللغة، وكلفت بتدريس الشعر لطلاب الدراسات العربية فى جامعات باريس، ثم اختتمت هذا النشاط فى الكوليج دو فرانس، حيث أصبح أندريه ميكيل رئيسا، فرشحنى لإلقاء أربع محاضرات عن الشعر العربي، اخترت أن أتحدث فيها عن شعرنا فى القرن العشرين.

لهذا قلت فى بداية هذا الحديث: إن الألم والخجل والأعجاب والإنكار كانت تتنازعنى وأنا أقرأ يوميات هذا الرجل النبيل!.

لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي

رابط دائم: