رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

عن الرئيس والنخبة المدنية

طالما تبلورت الحركات الجماهيرية الكبرى تاريخيا حول الوطنية المصرية نفسها، فما يستحق الحراك من وجهة نظر المصريين هو دوما وفقط تلك القضايا (الكبري)، التى أجمع عليها الضمير العام، من قبيل الاستقلال الوطنى فى مواجهة الاحتلال البريطانى سواء الصريح أو المضمر على نحو ما كان فى ثورة 1919، وعند إلغاء معاهدة 1936م. أو من قبيل الصراع مع إسرائيل عندما كان هاجس القتال لتحرير الأرض مسيطرا فى الفترة بين ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، إما مطالبة للرئيس عبد الناصر بمحاكمة العسكريين الفاشلين وإعادة بناء الجيش وهو ما كان بالفعل، وإما مطالبة للرئيس السادات باتخاذ قرار الحرب وهو ما تحقق بمعركة العبور فى أكتوبر 1973م، أو حتى فى سياق تحركات ثورية كبيرة على نحو ما شهدته مصر مؤخرا. ولكنها، أى تلك الحركات الجماهيرية، لم تتبلور أبدا فى قوالب إيديولوجية أو تتصارع سياسيا من داخل الفضاء المدنى إلا فى الحقبة الليبرالية التى لم تكمل العقود الثلاثة.

وفى المقابل انتهت كل جبهة أو حزب نشأ حول الرئيس أو بأوامره إلى كيان سلطوى بالضرورة، بيروقراطى ونفعي، على شاكلة تنظيمات جمهورية يوليو كالإتحاد الاشتراكي، وخصوصا الحزب الوطني، فكلاهما كان عائقا أمام التعددية الحقيقية ووسيلة تأميم لفعل السياسة نفسه سواء بالمطلق فى ظل غياب أى نظام حزبي، أو نسبيا بوجود أحزاب قشرية، تقيم مع النظام علاقات زبائنية تجارية، تلعب فى سياقها أدوارا معطاة ضمن حدود مرسومة، مقابل هدايا معنوية ومادية ورشى سياسية معروفة. ومن هنا كانت المآلات السلبية لثورة يوليو منطقية تماما رغم أهمية مشروع التحديث الناصري، فمن دون ديمقراطية حقيقية تضمن تداول السلطة، ومن دون طبقة سياسية ناضجة تلعب دور الحامل التاريخى للدولة المدنية لا بقاء لشيء، وجل ما يطمح إليه مشروع يدور حول شخص هو الاستمرار بطول عمر هذا الشخص، ربما أقل قليلا أو أكثر قليلا، وتلك مشكلة كبرى تواجه المجتمعات التى ترهن مصائرها بأعمار بشر ولو كانوا من طراز الأبطال. لقد رحل ناصر (البطل) ثم أنور السادات (رجل الدولة)، وبقيت مصر أسيرة لرجل من طراز حسنى مبارك، يخلو من روح البطولة، كما تغلب عليه صفات رجل الإدارة، ولذا فقد حدث ما حدث. ولهذا يخشى الكثيرون فى مصر، حتى أولئك الذى يقدرون التجربة التاريخية لعبد الناصر، من السير فى الطريق ذاته، بكل تفصيلاته، حيث تكون الحرية حلما مؤجلا، والديمقراطية مطلبا عبثيا وانسداد المستقبل قدرا محتما.

يعمق من هذه المخاوف ما هو معروف عن عمق البنية السلطوية لدى الشخصية المصرية، حيث تبدو السلطة أقرب إلى لهب مضيء فى ساحة مظلمة، يسير إليها الجميع ولو على غير هدي، أى على طريقة الفراشة التى تلتصق حتى تحترق، وليس على طريقة السياسة، التى تحاور وتفاوض وتساوم، وخصوصا مع ضعف تبلور التيارات الإيديولوجية والفكرية خارج فضاء الإسلام السياسي، على النحو الذى تبين جليا فى الانتخابات البرلمانية الأخيرة وقلل نسبيا من حجم المشاركة فيها قياسا إلى ما كان متوقعا، حيث زال خطر الإخوان وتوارت حدة الانقسام الدينى المدني، ولم تتبلور معالم انقسام سياسى حقيقى داخل التيار المدني، قادر على تحفيز الناخب وإلهامه.

هذا التبلور الفكرى على قواعد مدنية، والصراع السياسى على أرضية سلمية، هو الضامن الأساسى لأى تجربة ديمقراطية، وهكذا يتعين على السيد الرئيس النهوض بمهمة الإشراف عليه والدفع به على طريق إعادة بناء النخبة السياسية (المدنية). وبدلا من الانشغال ببناء جبهة تؤيده، يتعين الانشغال أكثر بالجبهة التى سوف تعارضه، فمن دون طبقة سياسية ناضجة، قادرة على ممارسة الحكم الرشيد والمعارضة المسئولة فى آن، سيبقى العطب نفسه الذى ضرب تجربة يوليو قائما، وستكون ولاية الرئيس السيسي، رغم شعبيته، فترة هدنة تتجمد خلالها التناقضات والقصورات القائمة، خصوصا وأن الشارع السياسى قد تغير وأصبح أكثر ميلا للفوران بعد أن ظل طويلا أقرب إلى الخمول والركود، وهو تحول نفسى غالبا ما يصبغ الشخصية السياسية للمجتمعات بعد الثورات، لمدة قد تطول أو تقصر بحسب عوامل كثيرة، ما يعنى أن من صالح الحكم الجديد أن يعيد تسكين (فعل) السياسة فى مؤسسات تعكس التوازنات المجتمعية القائمة، بدلا من تزييف الوجود الاجتماعى والفكرى داخل تلك المؤسسات على نحو يؤدى إلى تعطلها، وانبثاق الصراع السياسى من خارجها، وهو أمر سوف يؤدى بالضرورة إلى علو صوت جماعة الإخوان مرة أخرى.

فى هذا السياق لا تحتاج مصر إلى تحالف دعم الدولة الهادف إلى هيمنة سلطوية ممجوجة، بل إلى إعادة تجديد التيارات الفكرية والسياسية التى لا تزال صالحة للعمل، خصوصا الأربع الكبرى منها التى لعبت أدوارا تذكر فى القرن العشرين: الليبرالى المتمركز حول الوفد، واليسارى المتمركز حول التجمع، والقومى العربى المتمركز حول الناصريين، والإسلامى المعتدل الذى يبحث عن مركز جديد بعد انكسار المركز الإخواني، وعلى الدولة نفسها أن تساعد فى بلورة هذا المركز، شرط العمل بكامل شروط الدولة المدنية، والتخلى عن أوهام الأسلمة السياسية.

وهكذا تفرض ضرورات الإصلاح السياسى والتحول الديمقراطى على الرئيس نوعا من الحياد الإيجابى بين القوى القائمة، يتمكن معه من دفعها نحو إعادة تنظيم صفوفها، والانتظام فى قوالب قادرة على التنافس داخل برلمان يتبلور داخله التيار الأقدر على تشكيل الحكومة بحيازة الأغلبية، وكذلك التيار القادر على المعارضة الملتزمة، فيما يكتفى هو بترشيد الصراع بين الطرفين، باعتباره رمزا للوطنية المصرية وقائدا للتيار المدنى يضطلع بمهمة حمايته من الخارج، ضد نوعين أساسيين من التغول: أولهما يأتى من التطرف الديني. وثانيهما من أجهزة الدولة الأمنية. وهكذا يتحول الرئيس إلى موقع الحكم ليس فقط بين السلطات، ولكن بين التيارات الكبري، الفكرية والسياسية، فى الحياة المصرية بغرض تكريسها ذاتيا وتبلورها موضوعيا، كى تصبح قادرة على التفاوض والحوار والمساومة داخل البرلمان، وعلى تحريك الجماهير فى الشارع، مدنيا وسلميا، دفاعا عن مشروعاتها وتوجهاتها، بالقدر الذى يحقق لها التراكم الديمقراطى والاستمرارية التاريخية.

[email protected]
لمزيد من مقالات صلاح سالم

رابط دائم: