رئيس مجلس الادارة
أحمد السيد النجار
رئيس التحرير
محمد عبد الهادي علام
نعم.. نعتز بما قدمناه، لا من حيث هو ماض نمدح به أنفسنا، بل أيضا من حيث هو حاضر نحتاج إليه، ونتمسك بحقنا فيه، فالحضارة البشرية التى حملنا أمانتها فى العصورة الماضية لا تخص شعبا أو ديانة دون غيرها، وإنما هى ملك لكل البشر، ومن حقنا إذن أن نأخذ منها كما أعطيناها.. نأخذ منها حقنا فى المعرفة، ونأخذ منها حقنا فى الحرية والأمن والتقدم، ومن هذا المدخل نتحدث عن الإسلام وعن حضارته. لكن علينا أن نكون صرحاء فنقول: إننا نحن المسلمين لسنا دائما أفضل من يتحدث عما قدمناه فى تاريخنا، لسبب بسيط كثيرا ما نتجاهله، وهو أننا لم نقرأ هذا التاريخ كما يجب، ولم نعرف ما حدث فيه، فالتاريخ ليس مجرد أخبار وأسماء وأزمنة، وإنما التاريخ أطراف تتصارع، وعوامل تتفاعل،وأسباب تؤدى إلى نتائج، وأفعال تستثير ردود أفعال، وقوى تنهض، وقوى تسقط، وعلى هذا النحو يتحرك البشر ويختارون مواقفهم فيتقدمون، أو يتنازلون عن حقهم فى الاختيار، وينصاعون لمن يقهرهم ويستبد بهم، ويمنعم من أن يتحركوا إلا فى الحدود التى يعينها لهم هو، ومن يستأجرهم لخدمته من رجال الدين والدنيا، خاصة رجال الدين الذين يكون عليهم، إذا قبلوا العمل فى خدمة الطاغية، أن يخلطوا الدين بالسياسة، وينصبوا الطاغية حاكما بأمر الله، أو متحدثا باسمه، فحكمه قضاء وقدر لا تستطيع الرعية المسكينة أن تخالفه، أو تخرج من سطوته، أو تسأل عما فيه من عدل وصواب، وفى هذا الضوء نفهم الأسباب والظروف التى ازدهرت فيها الحضارة الإسلامية، والأسباب والظروف التى تراجعت فيها واضمحلت. ومن المؤسف أننا لا نزال نعيش فى ظل الأسباب والظروف التى أدت إلى التراجع والاضمحلال، ولهذا لا نعرف تاريخنا الذى لا نزال ننسبه لغيرنا، ونعتبره جبرا خالصا لا نكلف أنفسنا عناء البحث فيه، لأننا لسنا فاعلين فيه، ولسنا مسئولين عنه، ومن هنا لا نعرف نحن المسلمين تاريخنا، وإنما يعرفه أفضل منا الذين يعرفون تاريخهم، ويعرفون بالتالى ما كان بينهم وبين غيرهم من أيام وأحداث، وما أخذوه منهم وما أعطوه، ولهذا نستشهد بما قاله الأوروبيون عما قدمته الحضارة الإسلامية للعالم، لأنهم أدرى به من ناحية، فضلا عن أن شهادتهم فى مصلحتنا لن تتعرض لمن يردها أو يجرحها. وقد سبق لى أن استشهدت ببعض ما جاء فى الدراسات الغربية عما قدمه المسلمون للحضارة الإنسانية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه فى العصور الحديثة، وذلك فى مقام الرد على جماعات الإسلام السياسى التى تتبرأ من هذه الحضارة، لأنها تأسست على العقل والحرية، والعقل والحرية بالنسبة لجماعات الإسلام السياسى عدوان لدودان، أما بالنسبة لنا فهما طوق نجاة لا نستطيع دونه أن نخرج مما نحن فيه. وأنا أعود من جديد لأستشهد بما قاله الغربيون عن الحضارة الإسلامية التى سطعت شمسها قرونا متواصلة، ثم انحدرت واحتجبت، أعود لأسأل عن الأسباب التى حجبتها عنا وعن العالم، وأغرقتنا منذ القرن الثالث عشر إلى اليوم فى هذه الظلمات. {{ { فى الكتاب الذى ألفه جيمس وستفال توسون، وفرانكلين شارلز بام، وفان نوستراند عن الحضارة الأوروبية، والثلاثة من أساتذة الفلسفة، نقرأ هذه السطور التى نقلها لنا عباس محمود العقاد فى كتابه «أثر العرب فى الحضارة الأوروبية»، فى خلال قرنين (الثامن والتاسع الميلاديين)، نقل إلى العربية كل ما خلفه الإغريق من التراث العلمى على التقريب، وأصبحت بغداد والقاهرة والقيروان وقرطبة مراكز لامعة لدراسة العلم وتلقينه، وأخذت المعرفة بهذه الثقافة الإغريقية العربية تتسرب إلى أوروبا الغربية فى أواخر القرن الحادى عشر والقرن الثانى عشر، ولم يكن تسربها من أثر الغزوات الصليبية كما سبق إلى الخاطر، لكنه جاء من طريق صقلية إلى إيطاليا، من إسبانيا المحمدية إلى إسبانيا المسيحية ثم إلى فرنسا، وتسابق الرجال من ذوى العقول اليقظى إلى بلارمة وطليطلة لتعلم اللغة العربية، ودراسة العلوم العربية، والعجيب أن معظم هؤلاء الرجال كانوا من الإنجليز مثل أديلارد أوفابات، ودانيال أوف مورلي، وروجر أوف هيرفور، وإسكندر نكوام، وترجم جيرارد أوف كريمونا (المتوفى سنة 1187) واحدا وسبعين كتابا من هذه الكتب (العلمية العربية) إلى اللغة اللاتينية، وقاربه فى وفرة الإنتاج أفلاطون أوف تيفولي، وعلى هذا النحو كانت أوروبا قد استولت فى مستهل القرن الثالث عشر على محصول العلم الإغريقى والعربي، وأصبح تدريس العلم فى الجامعات الحديثة من الأمور المقررة المتفق عليها، وكان أعظم علماء ذلك العصر الإنجليزى الفرنسيسكانى روجر باكون، وهو لا يقصر فى عظمته عن البرنس الكبير، وكلاهما قد تولى التدريس فى جامعة باريس. والحديث لا ينتهى عما قدمه المسلمون العرب وغير العرب للحضارة الإنسانية، وهذا ما يحق لنا أن نتحدث عنه، ونعتز به، لكن هناك سؤالا يتحتم علينا فى المقابل أن نطرحه على أنفسنا وهو: لماذا لم نواصل هذه المسيرة الظافرة التى بدأناها قبل غيرنا؟ ولماذا لم نصل بها إلى الغاية التى وصلت إليها على أيدى الأوروبيين الذين تتلمذوا على أيدى علمائنا وفلاسفتنا، وحملوا الراية بعدهم، فوضعوا للعلم مناهجه، وحققوا له استقلاله وحصانته، فلم يعد للوهم أو للظن أو للكنيسة أو للسلطة أو للمصلحة الشخصية سبيل إليه، أو سلطان عليه، ولم تعد قوة فى الأرض تستطيع أن تحول بين العلم وبين اكتشاف العالم، وتسخير الطبيعة، وغزو الفضاء، وإخضاع كل شيء وكل كائن، وكل ذرة وخلية، وكل فكرة وخاطرة، وكل مجهول ومعلوم للفحص والدرس والتجريب والاختبار؟ لماذا تخلينا عن هذا العصر الذهبى ودخلنا عصر انحطاط لم نخرج منه حتى الآن؟ وما هو هذا الداء العياء الذى أوقف حركتنا، وشل تفكيرنا، وصرفنا عن العلم، وخوفنا من العقل والحرية؟ الجواب هو: الطاغية المتلفع بالدين، وهو: رجل الدين المتغطى بالطغيان! الخلط بين الدين والوطن، وبين دين والدولة، وبين الدين والسياسة، وبين الدين والعلم، وبين الدين والفكر، وبين الدين والفن هو هذا الداء العياء، وهو هذا الوباء الذى عطل عقولنا، وسمم ضمائرنا، وأفسد علينا حياتنا فى الماضى والحاضر. سبعة قرون حتى الآن لم نخط فيها خطوة إلى الأمام، ولم نحافظ حتى على ما وصلنا إليه فى القرون التى سبقتها، وإذا كان الغزاة الأوروبيون قد أيقظونا عنوة من نومنا بعض الوقت، فقد عدنا لما كنا فيه من جديد، عدنا للخلط بين الدين وبين أى شيء آخر، وأى دين؟ ليس الدين كما يجب أن نراه فى هذه العصور الحديثة، وإنما الدين كما كان يراه ابن حنبل، وابن تيمية، وابن عبدالوهاب، والنتيجة هذا الجهل، وهذا الفقر، وهذا الضعف، وهذا الهوان! لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي