يظن البعض أن اقتصاد السوق يعنى ترك الأسعار للعرض والطلب دون تدخل. وهذا خطأ كبير. فهناك قوانين احتكار تطبق بجدية وحزم فى الدول التى سبقتنا فى اتباع اقتصاد السوق، مثل الولايات المتحدة وأوروبا. فالركيزة الأساسية لاقتصاد السوق هى مساهمة القطاع الخاص فى الانتاج مع وجود قوانين تنظم عمل هذا القطاع لمنعه من استغلال المواطنين. وأهم هذه القوانين هى قانون الاحتكار.
فاذا نظرنا الى الوضع فى مصر سنجد أن قانون المنافسة والاحتكار لدينا لا يفى بهذا الغرض، وهو حماية المواطنين من استغلال المنتجين والتجار. والدليل على ذلك ارتفاع الأسعار كل فترة وأخرى، وتقوم الحكومة بمقابلة ذلك بزيادة المعروض من الخضراوات والسلع الأساسية فى الجمعيات التعاونية، واستخدام عربات تبيع هذه السلع للجمهور بأسعار مخفضة بالمقارنة بثمن بيعها من التجار فى السوق. ولكن هذا اجراء مؤقت. فمجرد أن تنخفض الأسعار الى المستويات المعقولة تختفى هذه الاجراءات ويبقى فقط بيع السلع فى الجمعيات التعاونية وهى غير منتشرة فى الريف والأحياء الشعبية حيث يعيش منخفضو الدخل. وللقضاء على ظاهرة ارتفاع الأسعار دون ضوابط، لابد من اتباع وسيلة تتمتع بالموضوعية والاستمرارية للحد من ارتفاع الأسعار العشوائى.
والاقتراح المطروح فى هذا الصدد هو قيام الوزارات المسئولة عن السلع الأساسية، مثل وزارتى التموين والزراعة, بتقدير تكاليف الانتاج لهذه السلع من خلال لجنة فنية من الخبراء بكل وزارة تشكل لهذا الغرض. وتقوم هذه اللجان بتقديرالسعر العادل المفروض أن يسود فى الأسواق، وذلك باستخدام تكلفة الانتاج عند المنتج الرئيسى (الفلاح فى حالة السلع الزراعية مثلا)، ثم يضاف اليه تكلفة النقل فى المراحل المختلفة حتى وصول السلعة الى تاجر التجزئة الذى يبيعها مباشرة للجمهور، مع اضافة نسبة ربح معقولة للمنتجين والموزعين حسب ما تتوصل إليه دراسات اللجنة عن الربح العادل. ثم بعد ذلك تجتمع هذه اللجنة مع نخبة من المنتجين والتجار والمسئولين فى الغرف التجارية والصناعية لمناقشة هذه الأسعار قبل تفعيلها فى الأسواق. ويطلب من المنتجين والتجار الالتزام بهذه الأسعار التى تم الاتفاق عليها وألا سيعتبرون ممارسين للاحتكار ويطبق عليهم الجزاءات والغرامات المتضمنة فى قانون الاحتكار، والتى لابد أن تكون رادعة للمنتجين والتجار المخالفين.
ولكن تطبيق هذا الأسلوب يتطلب إعادة النظر فى قانون المنافسة والاحتكار لدينا فى مصر بحيث يدخل فى تعريف الاحتكار الانحرافات الكبيرة بين الأسعار المعلنة من الحكومة والأسعار التى تباع بها السلع فى الأسواق. وفى حالة وجود أسباب موضوعية مقنعة تؤدى إلى ضرورة رفع السعر فى الأسواق عن السعر المعلن ـ كخفض الجنيه مثلا وما يترتب عليه من زيادة أسعار مدخلات الإنتاج المستوردة وبالتالى زيادة تكاليف الانتاج المحلية ـ ترفع الأسعار المعلنة بصورة تتناسب مع الزيادة فى تكاليف الانتاج، وذلك لفترة مؤقتة حتى تعود الأوضاع الى ما كانت عليه. ويلاحظ أن تحديد الأسعار المعلنة للسلع الأساسية من جانب الوزارات المعنية لابد أن يأخذ فى اعتباره الظروف الاقتصادية الدولية والمحلية.
وختاما، قد يرى البعض أن هذا لا يتفق مع اقتصاد السوق الذى نسير عليه. وهذا غير صحيح. فاقتصاد السوق لايعنى ترك الأسعار تتحدد عشوائيا، وانما لابد أن تخضع لضوابط تضعها الحكومات فى الدول التى سبقتنا فى هذا المجال (مثل أمريكا وأوروبا) للحد من ارتفاع الأسعار بما يحقق التوازن بين العرض والطلب لصالح المستهلك، ودون الاخلال بحق المنتجين والتجار فى تحقيق الربح العادل. وأهم هذه الضوابط هو قانون الاحتكار. ولذلك نجد انه رغم ارتفاع متوسط دخل الفرد كثيرا فى هذه الدول بالمقارنة بمصر، إلا اننا نجد أن معدل التضخم السنوى لديهم يقل كثيرا عنا. فمثلا، عندما عدت الى مصر أوائل يناير 2015 بعد أن أمضيت فى أمريكا النصف الثانى من 2014 كأستاذ زائر، فوجئت أن الأسعار المطلقة للدواجن واللحوم فى مصر (بعد تحويلها من جنيه الى دولار بالسعر الرسمى) تزيد على الأسعار فى أمريكا، على الرغم من ارتفاع الدخول هناك كثيرا بالمقارنة الى هنا. ويرجع ذلك أساسا الى الضوابط الموضوعية الصارمة فى قانون الاحتكار بالمقارنة بقانون المنافسة والاحتكار لدينا. ولذلك لابد من اعادة النظر فى قانون المنافسة والاحتكار لدينا بتغليظ العقوبات للحد من استغلال المنتجين والتجار للمستهلك. فاتباعنا الحديث نسبيا لاقتصاد السوق، ترتب عليه وجود عدد محدود من المنتجين والتجار فى السوق مما أدى الى كثرة الممارسات الاحتكارية لدينا بالمقارنة بالدول التى سبقتنا فى هذا المجال. وهذا يتطلب التدخل من الحكومات لتحديد السعر العادل لكل من المستهلك والمنتج مع تعديل قانون المنافسة والاحتكار بتشديد العقوبات الاحتكارية كما أوضحنا أعلاه.