رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

الحياة فوق طبق من فخار

حين لم تستمع باريس لصرخات روجيه جارودى الفيلسوف الرائع والراحل ؛ لم يكن هناك مفر من أن ينالها هذا الرذاذ الدامى من إرهاب متأسلم . طبعا أكتب ذلك لأن جارودى عاش فى باريس وأطل منها على العالم كفيلسوف له وزنه الكبير.

 وحين كتب ضد الأصولية الصهيونية فى أوائل الثمانينيات ووضعها على رأس أعداء الحياة ، تلقى العقاب الصارم وهو المحاكمة ثم التجاهل وصولا إلى الموت الواقعى ؛ فضلا عن طمس وعدم ذكر أى إنجاز فكرى لصاحب الرؤى الصافية فى رؤية كثير مما جرى من أواخر السبعينيات إلى الآن.

وطبعا كان العالم الإسلامى قد فرح بإعلان جارودى لإسلامه ، لكن هذا الفرح لم يستمر طويلا ؛ فقد أدان الرجل الأصولية التى تدعى انتماءها للإسلام ، وطالب بتطوير المجتمع العربى بالثروة الهائلة التى يملكها بدلا من الإستسلام لعمليات النهب المنظم من الغرب لثروات العرب مقابل بيع حياة سابقة التجهيز لعالمنا العربى وللعالم الإسلامى . عند ذلك تم تجاهل الرجل وما يفكر وينشر ، ولم يبق له من صديق سوى أستاذنا الرائع الراحل كامل زهيرى الذى أشرف على ترجمة واحد من أهم كتبه عن الأصولية . وكان جارودى يؤكد الترابط بين مدعى التأسلم وبين الصهوينية ، وطبعا إشتركنا نحن مع موجة تجاهل الرجل ، وهى الموجة التى تديرها اجهزة توجيه الرأى العام فى الغرب ، مثلما تتجاهل تلك الأجهزة أى ربط بين الهجوم الهمجى على باريس بسبع حوادث إرهابية مساء الجمعة الماضى وبين ما حدث من سقوط للطائرة الروسية بعد مغادرتها مطار شرم الشيخ، وإكتفت تلك الإجهزة بمحاولة الإنتقاص من قدرات المصريين فى إدارة الأمن؛ بينما كان الأمن الباريسى غارقا فى الحيرة بعد الهجوم الهمجى ، فلم تصدر دولة قرار حرمان باريس من السياح ولم تنظر عيون أجهزة توجيه الرأى العام إلى نظام الحكم الفرنسى مطالبة إياه بإشراك قادة الإرهاب وأصحاب فلسفته فى قيادة فرنسا, مثلما طالبوا مصر بإجراء مصالحة مع قادة الإرهاب المتأسلمين .

فالديمقراطية التى يريدونها لمصر يجب أن تكون على هوى أجهزة الغرب ، وكأن خروج الملايين فى الثلاثين من يونيو لخلع المتأسلمين لم يكن يكف ، وكأن إنتخاب عبد الفتاح السيسى مرتين؛ مرة بتفويضه لمقاومة الإرهاب ، ومرة بإنتخابه رئيسا للجمهورية ، كأن ذلك لم يكف ، بل إستسلم الغرب لغواية الكيل بمعايير مزدوجة حتى فى حوادث الإرهاب .

ولعل جارودى الذى طاف بخيالى منذ سماعى لمأساة الهجوم المتعدد على عاصمة النور باريس ، جارودى هو من أراد تنبيه باريس إلى أن السير فى طريق تجاهل حقيقة واضحة وهى أن تل أبيب بقيادتها التاريخية بدءا من بن جوريون وصولا إلى شارون ونيتانياهو هم من أسسوا لجرثومة الإرهاب بدءا من مذبحة دير ياسين وصولا إلى صبرا وشاتيلا، مرورا بإسقاط الطائرة المدنية المصرية فوق سيناء وكان بها مذيعة التليفزيون الشاعرة سلوى حجازى ، ثم قتل قادة الثورة الفلسطينية فى بيروت وهى العملية التى إرتدى فيها أحد قادتها ملابس النساء لينفذ جريمة إغتيال غسان كنفانى وثلاثة آخرين ، بإلإضافة إلى إغتيال أبو جهاد المنظم لانتفاضات الضفة وغزة؛ ناهيك عن فخر شارون باغتيال ياسر عرفات .

وما أن طالب جارودى بالنظر إلى مؤسسى الإرهاب من قادة إسرائيل حتى حكموا عليه بأنه معاد للسامية، وتجاهل كل أخباره، حتى خبر موته لم يفجر فى ضمير باريس رغبة فى إعادة مناقشة جواهر أفكاره ، تلك التى بدأت من الماركسية ، ثم مرت بضرورة نقدها بعد أن تحولت إلى إمبراطورية سلفية عانت مما عانت منه كل الأفكار الكبيرة بسبب الدراويش الذين يحولون السطور المطبوعة وأحداث التاريخ كأنها حلقة ذكر من لايؤمن بمايقوله شيوخ الأفكار ، فهو كافر أو عميل أو خائن، يستحق الرجم وكان موت جارودى بسبب الاكتئاب الحاد, ولن أنسى ملامح الطبيب النفسى الفرنسى وهو من جذور عربية حين حدثنى عن الموت اكتئابا كما لامسه فى رحلة جارودى ، وشبهه بإكتئاب كل من الفلاسفة الذين سبقوه ، مثل مكسيم رودنسون ، وجان بول سارتر ، قال الطبيب النفسى كل واحد من الثلاثة حاول أن يحطم اليقين السابق للتجهيز ، ؛ فمكسيم رودنسون حاول تحطيم اليقين القائل بأن الحزب الشيوعى هو القادر على قهر الرأسمالية، وأن التصنيع مع الاعتماد على النفس يمكن أن يحقق الإزدهار، ولم تلتفت الأحزاب الشيوعية إلى الفجوة الهائلة فى التقدم العلمى والتكنولوجيا عند خصومها ؛ هذا التقدم التكنولوجى هو الذى هزم الأحزاب الشيوعية بإلإضافة إلى أن قيادات تلك الأحزاب عاشوا فى رغد العيش الشديد ، تاركين كل البؤس للمناضلين ضمن جموع الشعوب .

وسارتر لم يقتله الاكتئاب مع الشيخوخة أو السلس البولى فقط ، ولكن قتله هذا السعار العاطفى مع فتاة تصغره بأربعين عاما على الأقل ،فقد أراد أن ينسى بغرامها كل ما نادى به من أن مستقبل الإنسان يصنعه اختياره ، متجاهلا أن قائمة الاختيار تختلف من مجتمع إلى مجتمع. ورغم حماسه غير العادى لضرورة أن تتسع إسرائيل للمواطنين العرب بها ، إلا أنه علم يقينا صعوبة ترقى أى عربى فى إسرائيل إلى موقع مهم فى القيادة ، فالقيادة هناك ليهود أوروبا ، أما بقية يهود العالم فهم مواطنون من الدرجة الثانية ، والعرب المقيمون هناك مثلهم مثل عبيد القرون الوسطى . ومات سارتر بعد أن طلب رجل دين سماوى لا يهم إن كان مسيحيا أو مسلما فقط كان شرطه الوحيد ألايتناول أجرا من أهل من يستدعيه طلبا لصعود الروح بهدوء إلى السماء .

وحين تناول الطيبيب حياة أحزان جارودى ، ذكر أن عاطفة الرجل لم تنس يوما كيف رفض مقاتلون عرب توجيه الرصاص إلى صدره رغم أنه كان فى المعسكر المضاد لهم ؛ وأن منطقة الشرق الأوسط بما تضمه من روحانيات مسيحية وإسلامية ذات جذور وصلة بالحضارة الفرعونية تحتاج من الفكر المعاصر لإعادة اكتشاف ، فليس المطلوب أن يستسهل الغرب رحلة استنزاف خيرات الشرق الاوسط وأن يؤمن نفسه بالواحة الإسرائيلية ؛ بل على المفكرين والفلاسفة أن ينتبهوا إلى أن الأصولية التى تؤسس إسرائيل سيقابلها أصوليات تتبع نفس المنهج وتقتل العديد من أبناء الغرب قبل أن توجه سهامها إلى إسرائيل .

كان جارودى يملك طاقة إيمان بأن ثورة للأمل البشرى ستبزغ ؛ لتحطم هذا الاستسلام الخشن لعملية تفريغ الثروة بنهم الاستهلاك العارم ، وهو المرض المستشرى فى الواقع العالمى . هذا الواقع الذى يتجاهل مطلب إقامة عدل غير قائم على خداع الغير

مات جارودى وانطمست عيون الغرب عن رؤية ما تفعله الإصوليات المريضة بالبشر ، وعاش الكوكب الأرضى مع تقديس الثروة مع دهس البسطاء ، وحين انتفض المصريون رفضا لما طلبته الإصوليات المدعومة من قبل حكومات الغرب وتحديدا الولايات المتحدة وبريطانيا ،حين انتفض المصريون رأينا تلكؤ الغرب بأجهزة صياغة الرأى العام لتقف منا موقف المتفرج فى معركتنا ، لكن عندما لسعت باريس جحيم الإرهاب الغبى ، كان أهل مصر سباقين إلى رفض هذا الإرهاب .

ترى هل يتخلص الغرب من مساندة الأصولية المعاصرة التى جعلت كوكبنا الأرضى كطبق فخار يتم تهشيمه بقنابل ورصاصات تدعى الإيمان بالسماء ؟

سؤال مازال ينتظر إجابة عنه من مفكرى عالمنا المعاصر .


لمزيد من مقالات منير عامر

رابط دائم: