الرحمة لا يلتزم بها الناس إلزاما.. هي كالمطر الرقيق يهطل من السماء.. الرحمة لها بركة مزدوجة.. علي من يمنحها ومن يتلقاها.. هي أسمي من الصولجان والتاج.. تعلو فوقهما لأنها إحدي صفات الرب العظمي.. مقرها في القلوب.. العظمة الحقة تتمثل في الجمع بين العدالة والرحمة.. تفكر جيدا يا شايلوك لأنه مهما كانت عدالة الحجة التي نقدمها.. بالعدالة فقط لن يكون بوسعنا جميعا الخلاص!.
.........................................................................
كانت هذه هي كلمات بورشيا أفضل شخصية نسائية في مسرحيات شكسبير في رائعته( تاجر البندقية).. تلك المسرحية التي دأب اليهود علي محاربتها ورفض عرضها سنين طويلة بحجة معاداتها للسامية.. لأنها ولدت من رحم الاضطهاد والعنصرية وكتبها شكسبير في العصر الإليزابيثي عصر الحروب المتواصلة ضد أسبانيا في بلادها أو ضد مستعمراتها في أمريكا الشمالية والجنوبية عصر القلق والاضطراب.. عصر سيطرة الكنيسة وتوالي نكبات اليهود والتنكيل بهم في روسيا وفرمان طردهم من إنجلترا وأسبانيا والنمسا وتعاظم الأمر حين أقدم طبيب الملكة إليزابيث اليهودي لوبيز علي دس السم في طعامها.. وانتهي الأمر بإعدامه.. وتأليف كريستوفر مارلو لرواية يهودي مالطا فيما كتب شكسبير تاجر البندقية مستلهما من الأحداث التاريخية خطوطا عريضة كعادته لعرض أفكاره الإنسانية الخالدة التي تتجادل مع واقع يتجدد في كل عصر.. من هنا عاش أدبه وانتعشت سيرته في أرجاء الكرة الأرضية بما لم يتحقق لمؤلف في التاريخ من قبل.. تدور رواية تاجر البندقية حول قصة صديقين أنطونيو( التاجر الثري) وصديقه باسانيو الذي فاز بقلب الفتاة التي سحقت قلوب الخطاب.. فبجانب جمالها وثرائها.. كانت تعمد إلي حيلة أشبه بالألعاب قبل أن يقع نصيب باسانيو في النيل من ودها وخطبتها بعد أن اجتاز الاختبار.. وبمتطلبات العروس ومكانتها تتعاظم حاجته للمال الذي يذهب ليقترضه من صديق عمره( أنطونيو) فيذهب الأخير معه لشايلوك اليهودي المرابي الشهير في البندقية لكي يقرض أنطونيو المال ريثما تأتي سفنه المحملة بالبضائع من أعالي البحار.. ومن خلال الحوار يضع شكسبير يدنا علي الشخصية اليهودية التي كابدت عناء الاضطهاد وكراهية الناس.. بعد طلب أنطونيو للدين يرد عليه شايلوك بهذا الحوار البارع جدا في مضمونه ومراميه: سيد أنطونيو هل تتذكر كم مرة عايرتني بسبب ما أتقاضاه من الربا ووصفتني بالكلب ونعتني بالكفر وبصقت علي قبعتي دونما سبب إلا لأنني استثمر أموالي والآن جئت تقترض ثلاثة آلاف دوكة ذهبية.. وهل يملك الكلب مالا ؟ هل مقدرا أن أقول لك تقديرا مني لمعاملتك الطيبة.. سأقرضك هذا المبلغ من المال ؟
بكل رعونة يجيبه أنطونيو: أنا علي أتم الاستعداد لتكرار هذه النعوت والصفات وأن أبصق عليك.. أنا أطلب القرض منك كعدو.. أن نكث بعهده تجاهك.. يحق لك أن تطلب عقابه.. ولم يخطر ببال أنطونيو وهو يتحدث بهذه الطلاقة ما سيترتب علي توقيعه لصك غريب فريد لشايلوك.. يحق له بموجب هذا القرض أن يقتطع رطلا من جسم( أنطونيو) إذا تأخر في السداد.. وقضي الأمر وتأخرت السفن المحملة بالبضائع والضامنة لسلامة جسده كاملا غير منقوص.. وأعيتهم المسألة.. وجاء الحل علي يد امرأة.. أراد لها شكسبير أن تجمع بين العقل والمال والذكاء في مستحيلات لا تتكرر إلا نادرا.. تنكرت بورشيا في زي رجل بعد أن اطلعت جيدا علي قوانين مدينة البندقية وقررت الدفاع عن المتهم صديق حبيبها.. في حوار من أروع حوارات شكسبير بين بورشيا وشايلوك وبين الأخير وهيئة المحكمة.. ونجحت بورشيا في كسب القضية بعد أن واجهته بأمرين لا يعلمهما قائلة: ستتحقق لك العدالة الكاملة التي تطلبها والذي تقول إنه عار علي قوانينا إن لم تمنحه لك.. ستتحقق أحلامك ولكن ينبغي قبل أن تشحذ سكينك أن تعلم أن قوانين المدينة تحرم إهدار نقطة دم واحدة من أي مواطن مسيحي.. والنقطة الثانية أنك ينبغي أن تقتطع رطلا فقط من اللحم لا أزيد ولا أقل وفقا للصك.. هنا أسقط في يده وخسر قضيته التي طالب فيها بالعدالة فقط متغافلا عن الرحمة والقبول بسداد الدين بعد موعده وبفوائده كاملة وصودرت أمواله لتآمره علي قتل مواطن مسيحي.. مشهد يختزل صفات المعاندة والرغبة في الانتقام.. مناظرة بين العدالة والرحمة.
في أحداثنا الجارية ما يستدعي التأمل والمراجعة بين تلك الصفات أو المفاضلة بين التسامح والعدل.. أزمات توالت بعد ثورات الربيع العربي وهو أمر طبيعي يحدث بين المراحل المفصلية في حياة الشعوب.. تتحول الأزمات إلي كوارث إذا لم يتم حلها بطرق سليمة وسريعة.. أو عشوائية ومرتجلة.. لن نبالغ إذا قلنا إننا نعيش عصر الأزمات والكوارث الطبيعية وغير الطبيعية في أروع تجلياته.. ففي الوقت الذي تتدرج فيه الأزمة من مرحلة الإنكار والارتباك وعدم التصديق في البداية وتأجيل ظهورها مرورا بمرحلة الاعتراف بها والتقليل من شأنها ومحاصرتها في نطاق محدود أو العمل علي تفريغها من مضمونها إذا كانت من صنع الأعداء والتصدي لها بالحيلة وضرب التحالفات بأخري مضادة بها.. تبدأ مرحلة الإنذار المبكر الذي يستدعي وضع البدائل وإدارتها بروح الحماس والتكاتف في مواجهة أخطارها.. شئ من هذا حدث في ازمة الطائرة الروسية التي ذهب ضحيتها أكثر من مائتي شخص وصعدت مؤشراتها إلي قمة الأحداث العالمية المترتب عليها نتائج عالمية متشابكة ومعقدة أطرافها من دول ودواعش وبالرغم من أن أمريكا تأتي في مقدمة دول العالم في حوادث الطيران منذ عام1945 حتي عام2015(788 حادثا) تليها روسيا360 حادثا.. إلا أن إدارة هذه الأزمة العالمية وأزماتنا المحلية تستدعي مقارنات تندرج في وسائل التصدي الناجعة والتي كان دور الجيش فيها محوريا في طرق حلها ومعالجتها بأقل الخسائر وأقربها أزمة الأمطار والسيول.. امتلكت هذه المؤسسة دوما منهجا علميا في إدارة الأزمات واتبعت الأساليب السليمة في معالجتها.. فيما ارتضينا لمشاكلنا أسلوب الإدارة بالأزمات.. للأسف الشديد.. فالمدير يظل أسيرا للمشاكل المزمنة المتوالدة عن سوء التخطيط وعدم حساب العواقب كما غفل عنها شايلوك حين ارتكن لعامل وأغفل آخر من عوامل الحياة القويمة التي يحيا بموجبها الجميع.. المدير في بلادنا لا يختار بين البدائل ولكن غالبا ما تفرض عليه الظروف ردود أفعاله.. وبدلا من أن يدير الأزمات.. يصبح مدارا بالأزمات أنطونيو آخر استهان بقدرته علي الالتزام والقدرة علي التخطيط والسداد.. جعل مصيره مقرونا بأهوال البحار والمحيطات وتأخر سفن البضائع..
بشرتنا كونداليزا رايس بالفوضي الخلاقة.. والقدرة علي تفكيك الأنظمة والشعوب وإدارتها بالأزمات بنجاح وإعادة تشكيلها من جديد حين تصل إلي حافة الانهيار.. مصطلح يوحي بفتور الأفكار الرصينة في الفكر السياسي.. اعتماد كامل علي إدارة الأزمات التي يشعلونها بالتزامن في أكثر من دولة في العالم.. فهل تنجح إدارة الفوضي أو الأزمات ؟ الإجابة تنبأ بها برجينسكي مستشار الأمن القومي في عهد كارتر في كتابه أمريكا بين عصرين الذي وضعه في عام1970 تنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتي وقد حدث وتنبأ بأن البراجماتية التي تحكم السياسة الأمريكية وتتعامل بأسبقية الواقع وتحريكه والتلاعب بمؤشراته قبل التفكير بتبني سياسة رشيدة تضمن لها المحافظة علي مصالحها مصيرها نكبة كبري للولايات المتحدة.. وجاء هنتجتون من بعده مراهنا علي فجوة الاستقرار التي سيعاني منها الأفراد في الشعوب وستفرض علي الأنظمة الاصلاح السياسي واستبدال قواعد اللعبة واللاعبين.. ولكن الإدارة بالأزمات تدحرجت ككرة الثلج ولن يستطيع أحد أن يوقفها.. انقلب السحر علي الساحر.. وتمت خصخصة الإرهاب إلي جماعات صغيرة إن جاز التعبير التعبئة الإعلامية التي قامت بها ألمانيا الغربية لاختراق ألمانيا الشرقية وخلخلة الوضع الاقتصادي والاستقرار الأمني وإشعال الصراعات الطائفية والعرقية وإشعال الحروب والفتن.. هي المصير المحتوم.. للإدارة بالأزمات.. خدر المشاكل الذي يقتات من الكسل وفتور الهمة.. الإدارة بالأزمات لها جمهور ومشجعون لكنهم بلا رحمة مثل شايلوك عند وقوع الخطأ.. احترسوا وحاذروا من الأساليب والوسائل ربما تحققت أحلامكم ولكن بوسائل ومسكنات خاطئة.
رابط دائم: