رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

لا يعـرفون مصــر!

يحلو للبعض حين يرانا نتحدث عن الديمقراطية أن يبتسم فى وجهنا ابتسامة مشفقة يعطف بها علينا ويهدئ من روعنا ويتسامح مع ما يجده فى حديثنا من سذاجة تغفرها لنا نوايانا التى يتلطف فيعتبرها نوايا حسنة تزين لنا أن المصريين مهيأون لممارسة الديمقراطية قادرون على دفع تكاليفها الباهظة. وهذا فى نظره وهم أوقعتنا فيه قلة خبرتنا، وتعلقنا بما نقرأ فى الكتب والنظريات السياسية، وعجزنا عن التعامل مع الواقع كما هو لا كما نحب أن يكون.

والواقع أن هؤلاء السادة الحكماء هم الأحق بالشفقة. لأنهم هم الذين لا يعرفون مصر إذا افترضنا أن نواياهم حسنة، فإن كانت سيئة، وهو الأرجح، فغايتهم التى يقصدونها ولا يفصحون عنها هى أن يواصلوا حياتهم بالشروط التى يستطيعون فيها أن يتجاوزوا أى حد وأن يرتكبوا أى جريمة وهم آمنون مطمئنون. لأنهم بما يتحصنون به من مال مسروق وسلطة مغتصبة سوف يفلتون من المساءلة والمراقبة والمحاسبة والمعاقبة، طالما كانت الديمقراطية غائبة وكان القانون أعزل لا يجد فى الدولة أو فى المجتمع حارسا أو نصيرا.

لماذا يظن هؤلاء أن المصريين ليسوا مهيئين لممارسة الديمقراطية، وأنهم لا يستحقونها الآن على الأقل ولا يقدرون على دفع تكاليفها؟ انهم يجيبون فيقولون: لأن الديمقراطية كما تعرفون ثقافة. وهذه الثقافة ليست متوافرة للمصريين الذين لم يستطيعوا حتى اليوم أن يتخلصوا من الأمية التى لاتزال تفتك بثلثهم على الأقل، أى بثلاثين مليونا منهم. كيف يستطيع هؤلاء أن يقرأوا الدستور أو يفهموا ما فيه أو يميزوا بين برنامج حزبى وبرنامج آخر؟

ثم إن المصريين، أو نصفهم، يعانون من الفقر. والفقراء يطلبون الخبز أولا ويقدمونه على الحرية. لأنهم إذا لم يحصلوا على الخبز يموتون. أما إذا لم يحصلوا على الحرية فسوف يظلون على قيد الحياة ولو كانوا سجناء!

من هنا يقترح هؤلاء السادة أن نؤجل الكلام عن الديمقراطية وننصرف لمحو الأمية وتنمية الثروة القومية. فإن كان لابد من مشاركة الشعب فى السلطة فبدستور معدل أو بدستور جديد نأخذ فيه ظروف الواقع وشروطه بعين الاعتبار!

منطق! وهو منطق مقنع. لكن بشرط، هو أن نشارك أصحابه جهلهم وسوء نيتهم. وهذا ما لا نستطيعه.

الأمية لم تمنع الأميين الفرنسيين المحرومين من السراويل les sans culattes فى القرن الثامن عشر من الثورة على النظام الملكى المستبد وطلب الحرية والمساواة والعدالة لكل البشر.

والجوع لم يمنع الجوعى من اقتحام الباستيل فى الثورة الفرنسية. بل هو الذى دفع الجنود والعمال والفلاحين الروس الملتحين الملتحفين بجلود الخراف لاقتحام قصر الشتاء ببطرسبورج خلال الثورة الروسية.

ولقد كان المصريون يعانون من الأمية قبل مائة وخمسين عاما أكثر مما يعانون منها الآن. وكانوا يعانون الفقر، وكانوا يعانون السخرة. لكنهم شاركوا فى ثورة عرابي، وشاركوا فى ثورة 1919، ودافعوا عن الدستور، وأسقطوا الحكومات التى اعتدت عليه وعدلته لحساب الملك فؤاد.

فإذا كان هناك من يقترح تأجيل الكلام فى الديمقراطية فهناك من يرى ولو فى سره ـ أن نصرف النظر عنها، لأن الديمقراطية كما يعتقد نظام غربى لا يصلح إلا للغرب ولا يعيش إلا فيه. هذه الأكذوبة تجد من يتبناها فى الشرق والغرب. الرجعيون عندنا يتبنونها لأنهم يحرسون بها امتيازاتهم. والعنصريون فى الغرب يتبنونها. لأنهم حين يتعاملون مع حاكم فرد فى بلد من البلاد يفرضون ارادتهم ويضمنون مصالحهم أكثر مما يضمنونها لو تعاملوا مع سلطة شعبية. من هنا سخريتهم من اليابانيين الذين أرادوا فى سبعينيات القرن التاسع عشر أن يؤسسوا نظاما ديمقراطيا بعد أن ظهر لهم أن الدكتاتورية العسكرية فشلت فى حماية اليابان والوقوف فى وجه الغربيين الطامعين فى الاستيلاء عليها. عندئذ وجدوا فى أوروبا من يقول إن اليابانيين يندفعون فى طريق لا يصلح إلا للغربيين، وأنهم يحاولون الجرى قبل أن يتعلموا المشي!

ونحن نرى الآن أن اليابانيين وهم فى طريقهم إلى الديمقراطية لم ينجحوا فقط فى الجري، بل نجحوا أيضا فى الطيران!

وكما نجحت الديمقراطية فى اليابان وأصبحت يابانية نجحت فى الهند وأصبحت هندية. وكذلك نستطيع أن نقول عن الديمقراطية فى مصر.

لقد انعقد مجلس شورى النواب، أول برلمان مصري، عام 1866 بمبادرة من الخديو إسماعيل كما نعرف، لكن مبادرة الخديو كانت استجابة لما عرفته مصر من تطورات سياسية وثقافية واجتماعية بدأت مع الحملة الفرنسية وتواصلت على يد محمد على الذى خرجت مصر بفضله من عصور الظلام التركية المملوكية ودخلت العصور الحديثة.

ويكفى أن نقرأ ما كتبه الطهطاوى فى «تخليص الإبريز» وفى «مناهج الألباب المصرية» عن السياسة، وعن الديمقراطية، وعن العدل والحرية، وعن الدستور الفرنسى الذى ترجم نصوصه وعلق عليها فقال: «فإذا تأملت رأيت أغلب ما فى هذه الشرطة ـ والشَّرطة بشدة على الشين وفتحة تعريب للكلمة الفرنسية charte أى الدستور أو القانون ـ يقول إذا تأملت رأيت أغلب ما فى هذه الشرطة نفيسا.. قوله فى المادة الأولى سائر الفرنسيس مستوون قدام الشريعة معناه سائر من يوجد فى بلاد فرنسا من رفيع ووضيع.. فانظر إلى هذه المادة الأولى فإنها لها تسلط عظيم على اقامة العدل واسعاف المظلوم وارضاء خاطر الفقير كالعظيم.. وهى من الأدلة الواضحة على وصول العدل عندهم إلى درجة عالية. وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والانصاف، وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو اقامة التساوى فى الأحكام والقوانين بحيث لا يجور الحاكم على إنسان، بل القوانين هى المحكمة والمعتبرة...»

ولست محتاجا لحديث طويل عن الثورة العرابية التى قامت من أجل الديمقراطية ومن أجل الدستور والبرلمان. يكفى أن أنقل لكم نص المادة الخامسة من برنامج «الحزب الوطنى المصرى» الذى انخرط فيه عرابى، ومحمد عبده، ومحمد شريف، ومحمود سامى البارودى وطالبوا فيه بنظام ديمقراطى يكون فيه الشعب مصدر السلطات وتكون الحكومة مسئولة أمام البرلمان. وتقول المادة الخامسة فى برنامج الحزب الذى كتبه الامام محمد عبده: «الحزب الوطنى حزب سياسى لا دينى أى أنه تنظيم وطنى وليس جمعية دينية ـ فإنه مؤلف من رجال مختلفى العقيدة والمذهب. وجميع النصارى واليهود وكل من يحرث أرض مصر ويتكلم بلغتها ينضم إليه. لأنه لا ينظر لاختلاف المعتقدات، ويعلم أن الجميع اخوان، وأن حقوقهم فى السياسة والشرائع متساوية. وهذا مسلم به عند أخص مشايخ الأزهر الذين يعضدون هذا الحزب ويعتقدون أن الشريعة المحمدية الحقة تنهى عن البغضاء وتعتبر الناس فى المعاملة سواء..».


لمزيد من مقالات أحمد عبد المعطي حجازي

رابط دائم: