يختزل الهاشتاج المتواتر على مواقع التواصل الاجتماعى (أنا مع مصر) جملة من المعانى والقيم الوطنية الكبري، فاستشعار الخطر من قبل المصريين على مقدرات الأمة المصرية، يكشف عن لحظة فارقة فى عمر الوطن والدولة معا، يجب فيها أن تصبح البوصلة صوب مصر ولا شىء سواها.
إن القريحة الشعبية المصرية بوهجها وبساطتها ووعيها العميق فى الآن نفسه، قد أدركت أن ثمة خطرا ما يحيط بالدولة ذاتها، ليس انطلاقا من نظريات التآمر الكوني، ولكن استنادا على معطيات الواقع ودلائله وتصوراته الكاشفة عن تمدد الإرث الاستعمارى فى العالم، وضرب الدول المركزية بجماعات الإسلام السياسي، فى تكريس للتحالف المستمر بين قوى الرجعية و قوى الاستعمار الجديد.
وبدت الدول صاحبة الإرث الاستعمارى رأس حربة فى هذا السياق، بتواطئها مع جماعات التطرف واستقبال رموزها على أراضيها، وعدم قدرتها على اتخاذ قرار يدين الجماعة الأم ( الإخوان المتأسلمون) التى زرعت الإرهاب فى العالم، ولم تصنفها ضمن الجماعات الإرهابية، فضلا عن التماهى فى المواقف السياسية مع الوريث الإمبراطورى الذى يحكم العالم بوصفه خلاصة الديمقراطية فى العالم المسكون بالتوحش الرأسمالى وعولمة التكريس للسيد الأمريكى الذى يرفع راية الحرية بيد، ويدعم قوى التطرف باليد الأخري، فى مفارقة لا تليق سوى بعالم يقف على شفا الجنون والانهيار.
ربما تلخص جملة (أنا مع مصر) حالة من العفوية ووضوح الموقف فى ظل سياق مشحون بالاستقطاب، والشماتة الكريهة من جماعة الإخوان ومن والاهم من الإرهابيين، وكأن الجماهير وجدت ضالتها فى تلك العبارة الكاشفة، بسيطة المبني، عميقة المعنى فى آن. لقد وصلت الكراهية للوطن والتشفى فيه مدى يصل بأصحابه إلى منتهى الانحطاط القيمى والأخلاقي، حيث دعا أحد الرموز الإخوانية الهاربة الغرب الاستعمارى إلى التدخل العسكرى الدولى فى مصر، وتدويل سيناء، وقناة السويس، وفضلا عن البلاهة المطلقة التى تمكنت من صاحب الدعوة الخائنة فإن ثمة أجواء مهيأة للخيانة وطعن الوطن وبيعه فى أى لحظة وبأى ثمن.
إن تلاحم المصريين الآن بات غاية ووسيلة لمجابهة الفكرة الاستعمارية التى تريد تقسيم الشرق الأوسط حسب مصالحها وأطماعها التى لا تنتهي، وكأن مصر تدفع كل أثمان المقاومة للسيد الإمبريالى الجديد، بأعوانه وخلصائه من القوى الكبري، وخدمه من اللاعبين الإقليميين فى المنطقة، وكل المنتمين إليهم من نخب العار التى تتخذ من الدولار وجهة مركزية لها، وتبيع رطانا فارغا، يجعلها فى مركب التطرف جنبا إلى جنب مع قوى الرجعية والتخلف، وفى مركب الاستعمار الجديد جنبا إلى جنب مع سادة التوحش الرأسمالى والعولمة الأمريكية.
لقد تصاعدت وتيرة الهجوم على الدولة المصرية فى الأيام الماضية، حيث يتحالف سياقان خارجى وداخلى فى التمهيد لشىء لا نعرفه، لكننا قد نستشرفه وفق معطيات القراءة للراهن المتعثر والمحتدم فى الآن نفسه، فبعد حادث تحطم الطائرة الروسية استثمرت دوائر صنع القرار فى العواصم الغربية الكبرى هذا الحادث المأسوى وشاركتها باستفزاز شديد الميديا الغربية التى تكشف حركتها عن جدل العلاقة ما بين السياسى والإعلامى، ووضع الميديا فى خدمة السياسة، واتسعت رقعة التكهنات والتحليلات التى استبقت نتائج التحقيقات، وأصبحنا أمام مزاعم غير مسئولة تشير إلى وجود عمل إرهابى تسبب فى سقوط الطائرة، وأصبح كل شيء مرشحا للتصاعد غير المنطقى، وكأننا أمام مشهد مصنوع بامتياز، فانجلترا تعلن أنها ستقوم بإجلاء رعاياها من شرم الشيخ، وعودتهم إلى بلدهم، وأمريكا تتخذ موقفا مشابها سبقته تصريحات تلمح إلى وجود شبهة لعمل إرهابى، ثم كان القرار الروسى الذى يمكن لنا تفهم أبعاده وسياقاته من تعليق الرحلات الجوية الروسية إلى مصر مؤقتا، مثلما يمكن لنا أيضا تفهم موقف روسيا فى المنطقة برمتها، وما يمكن ملاحظته من حالات الاستهداف لها من الجماعات الإرهابية المدعومة استخباراتيا من قوى الهيمنة على العالم، جراء الموقف الجذرى والثابت للروس من الإرهاب فى العالم.
ويتزامن مع الإطار الخارجى بتعقيداته وتشابكاته المختلفة سياق داخلى رأينا فيه عودة لبعض الوجوه التى تحالفت مع الإخوان وتآمرت معهم على الثورة وظنت أنها فى مأمن من الحساب الشعبى والسياسي، وبدت تقدم نفسها باعتبارها راعية يناير، وكأن الثورة الشعبية المجيدة فى يناير 2011 كرة قدم تتقاذفها أقدام هؤلاء الرجعيين من أذناب اليمين والعولمة الأمريكية، كما بدأ الاحتشاد الكاذب ليناير جديد فى محاولة لاستثمار الظرفين الخارجى والداخلي، ومحاولة خلق مشهد يعيد التحالفات القديمة الجامعة ما بين أقصى اليسار وأقصى اليمين فى مناخ عبثى لا يمكن تخيله سوى مع بشر يفتقدون بوصلة الانتماء للأوطان، والوعى بمعنى الوطن وقيمته وما يمثله فى الضمير الجمعى لأبنائه.
لا شك أن ثمة أخطاء موجودة وحاضرة ولا يمكن تجاهلها، بل إن التغاضى عنها يصبح دفنا للرءوس فى الرمال، ولذا فإن إعلاء قيم النزاهة والشفافية فى كل شىء يتعلق بمصالح الناس وحيواتهم، ومقاومة الإهمال والفساد والمحسوبية والاختيارات الخاطئة لكثير من المسئولين، وتغليب الانحيازات الاجتماعية المساندة للمهمشين والمقموعين ومحاولة خلق بنية تعليمية وثقافية جديدة ومختلفة تنفض يدها من مناخ التحالف بين الفساد والرجعية الحاكم للكثير من المؤسسات، يجب أن تصبح بمنزلة العناوين الرئيسية لمسار حقيقى يجعلنا قادرين على مجابهة قوى الهيمنة والاستعلاء من جهة، والانتصار لما خرج إليه ناسنا وجماهير شعبنا فى ثورتين مجيدتين من جهة ثانية.