رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

نهاية المعنى.. ما بعد حديث النهايات!

أنهينا فى الأسبوع الماضى وقفاتنا عند النهايات الكبرى: الدين والفلسفة والإيديولوجيا والحداثة والتاريخ والإنسان، تلك التى توالى إعلانها من قبل العقل الغربى عبر قرن مضى، والتى فسرنا المنطق الكامن خلفها بفلسفة المركزية الغربية، والغرور الوضعى الذى أنتج رؤية حتمية عن التاريخ تقول بالتقدم المطرد واللامحدود له، وبالقدرة على ممارسة القطيعة الجذرية مع الأنساق الكبرى التى ينطوى عليها. أما اليوم فنعلن من جانبنا عن نهاية جديدة نجد لها تبريرات أكثر صدقية بالقياس إلى كل النهايات السابقة وهى (نهاية المعنى).

لقد دار ولا يزال جدل كبير فى علم الاجتماع الغربى حول «أزمة معنى»، تنبت من شعور الإنسان المعاصر بالتعاسة والتوتر رغم إشباع كل احتياجاته المادية، الضرورية والكمالية، إلى درجة لم تتحقق قطعا فى أى حقبة تاريخية سابقة. ومن ثم يتبدى أن الأزمة مصدرها روحانى، يتمثل فى الشعور بالافتقار إلى معنى كلى للحياة صار متعذرا تحت وطأة الإيقاع اللاهث للواقع اليومى، والعلاقات الاجتماعية المحايدة التى خلت من الحميمية والترابط الوجداني، لتصبح مجموعة تفاصيل متناثرة لا قصد لها. ولكن ما يدفعنا إلى القول بنهاية المعنى وليس فقط أزمته، هو أن الأزمة صارت وجودية، قادرة على وسم الإنسان بالقلق فى أرقى المجتمعات وأغناها، ووصمه بالوحشية فى أكثرها فقرا وتخلفا، بفعل دوافع عدة نتوقف عند ثلاثة أساسية منها:

الدافع الأول دين، يتمثل فى غياب الإيمان الروحى العميق، المرتبط بالحضور الإلهى القدسى فى عالمنا، والقادر على تنمية العوالم الداخلية للإنسان من خلال ربطه رأسيا بعالم الغيب، على نحو يذكره بمآله ومصيره، ويستخرج منه أنبل ما فيه، إذ يبثه ضميرا خلقيا مريدا للخير هيابا للشر، مدفوعا إلى الحق، رافضا للظلم. كما يربطه أفقيا بعالم الشاهد، والبشر الآخرين، ربطا يقوم على المحبة والتراحم، ويناقض القسوة والعنف. هذا الفهم الروحانى العميق للدين، لا يكاد يوجد الآن بفعل الزحف الشديد لظاهرتين متناقضتين: أولاهما الأصولية الدينية وما تولده من تطرف وعنف، يؤدى إلى القتل باسم المقدس. وثانيتهما العلمنة الوجودية، التى تفصل الإنسان عن المقدس، وتتعامل معه باعتباره كيانا ماديا بحتا، مجرد شىء مسطح بلا أعماق جوانية أو أخلاق سامية.

والدافع الثانى اقتصادى، ينبع من نمط حياة سريع الإيقاع محكم الحلقات، يدفع بالإنسان إلى الانشغال الدائم بتنمية عوائده المالية إما خشية الانزلاق إلى مستوى مادى أدني، وإما لتلبية حاجات الإنفاق على الملذات التى يتم اختراعها يوميا فى مجتمع «المابعد» الاستهلاكي. وبفعل هذا النهم المادى يفقد الإنسان إحساسه بمعنى «الرزق»، أى شعوره التلقائى الجميل بفرحة الكسب المالى الذى يأتيه فجأة فيسعد به ولو كان قليلا، وذلك أمام طغيان مفهوم «الدخل» الذى لا يثير فى النفس ألقا أو مرحا مهما كانت قيمته. فالإنسان المعاصر صار يعلم مصادر دخله، ويدرك على نحو مسبق ومخطط، حجم عوائده القادمة التى لا يسعد بها إذا ما جاءته كاملة، لأنه كان عارفا بها. ولأنه قام بتوظيفها فى دورة إنتاج أو استهلاك قبل أن تأتيه فعليا، أو على الأقل خطط لكيفية توظيفها، ربما عبر الفيزا كارد، من دون أن يلمس الأوراق المالية نفسها. أما إذا أتته تلك العوائد ناقصة نسبيا عما توقعه فسيبدو مختنقا تماما، حتى ولو كانت قيمتها الإسمية بالملايين أو حتى المليارات. ويرجع ذلك إلى أنه لا يتفاعل مع القيمة الإسمية ذاتها كحصيلة تبدو له باردة بقدر ما هى متوقعة، ولكن مع حجم التغير فى هذه الحصيلة صعودا وهبوطا، فهذا التغير وحده، هو الذى يبدو مثيرا لمشاعر الإنسان المعاصر، وهكذا تقل مشاعر الفرح مع موت فكرة الرزق بتلقائيتها المثيرة للمرح، وتزداد مشاعر القلق أمام مفهوم الدخل، بجموده الباعث على الضجر.

أما الدافع الثالث فعاطفي، يتمثل فى ذبول ظاهرة الحب الرومانسي، أحد أنبل العواطف البشرية، بفعل اختفاء المسافات المكانية الفاصلة بين الناس فى عالم متلاطم يكاد يسوده قانون الزحام، الذى يخرج منهم أسوأ ما فيهم، ويعطل لديهم أجمل ملكاتهم، إذ يعرى الروح من خصوصيتها، ويهتك سترها، ما يفضى إلى ابتذالها، وتقويض عذريتها. فمع اختفاء المسافات المكانية تكاد تختفى المسافات الروحية داخل الإنسان، والتى كانت تحقق لمشاعره خصوصيتها، وتضمن لها الاحتفاظ بطزاجتها ونضارتها، كونها منسوجة من الحياء والخفر وما يجلبانه من سحر غامض أو غموض ساحر، يزيد من تأجج تلك العاطفة الرقيقة بفعل الشوق إلى المحبوب، وما يحركه من توق إلى عالمه الخاص، ومن ثم الإعتياد عليه والتماهى فيه والذوبان داخله. ومع شيوع تلك العاطفة، غالبا ما تنمو أواصر مجتمع رحيم، أكثر ترابطا وانسجاما وأقل توترا وصراعا، فالمحب الصادق هو شخص قادر على التواصل مع الكون كله، وليس مع المحبوب فقط.

لقد كانت هذه المسافة الروحية قائمة ومتوافرة فى الأزمنة السابقة (التقليدية)، حيث الغموض الساحر، والشوق العذرى يلفان العلاقة بين الرجل والمرأة، وينثرا حولها القصص النبيلة. أما فى الزمن الحديث فظلت قائمة نوعا، وإن شهدت تقلصا بفعل نشوء المدن الكبري، وتنامى المنتديات التى تجمع بين الجنسين فى العمل والسفر والترفيه، إلى درجة صبغت العلاقة بينهما بميسم خاص، بدت فيه الجرأة أكثر سفورا والسحر أقل حضورا، فيما الغموض غائب تقريبا، وهى تركيبة أبقت للحب عالما قائما وإن لم يعد ساحرا. وأما الزمن المعاصر، حيث تسود مجتمعات مابعد (الصناعة، الحداثة..) فقد حرم تلك العاطفة من كل سحرها وغموضها، حيث أخذت المسافات تتضاءل واقعيا بفعل النمو السكانى والزحام الشديد، وتغيب افتراضيا بفعل ثورة الاتصالات وانفجار أدوات التواصل الإجتماعي، وما يصاحب ذلك من جرأة فى التعبير عن العواطف، مع سطحية مفرطة فى التعاطى معها. ومن ثم صارت القصص العاطفية قصيرة العمر وإن طالت، لا تنتج أثرا فى الروح ولا تغييرا فى معالم الطريق، على نحو ما كان مفترضا من تلك العاطفة التى تمثل، حال صدقها، إعادة اكتشاف للذات الإنسانية، تكاد تقارب ما يقوم به الإيمان الديني، فالإيمان والحب يصدران عن نبع إنسانى واحد، ويعكسان القوة الروحية نفسها، مع تغاير وحيد فى ذات المحبوب الذى تتوجه إليه كل عاطفة.. الذات الإلهية المطلقة والمتسامية فى حال الإيمان، والذات الإنسانية العادية فى حال الحب.

[email protected]
لمزيد من مقالات صلاح سالم

رابط دائم: