رئيس مجلس الادارة

أحمد السيد النجار

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

رئيس التحرير

محمد عبد الهادي علام

يا عزيزى: كش ملك!

نحن الآن يا دوب. في الاسبوع الأول من العام الدراسي.
وحدي أنا أسير الهوينا في شوارع وسط البلد. لم أكن أتوقع أبدا أن ألقاهم يمشون غير بعيد عني. يتبادلون الشد والجذب والضرب والجرى وراء بعضهم البعض والسجائر معلقة بشفاههم. مع وصلة من الزعيق والبذاءات والتنابذ بالألقاب. وهو تعبير أخف من أن أقول الشتائم المقذعة التي تهوي فوق رؤوس الآباء والأمهات. دون أن يدروا ودون أن يسمعوا. ولا أريد أن أفسر أكثر من ذلك. وكلنا يعرف ويسمع ويشاهد ويطنش - يعني يسكت ويتغاضي ويغض الطرف ويدعي الطرش قال يعني موش سامعين وموش شايفين.
كان الجامع القريب يؤذن مؤذنه صاحب الصوت الأجش لآذان الظهر.
أمسكت بيد تلميذ صغير لا يتعدي عمره الثانية عشرة من عمره وقلت له: علي فين يا كابتن أنتم طلعتوا لسه من المدرسة؟
نظر إليَّ نظرة استغراب أو استهجان أو استنكار سمها كما شئت ثم قال لي: وبتسأل ليه. احنا أصلا مزوغين من المدرسة. مارحناش النهارده. قلنا نتمشي شوية في وسط البلد ونخش السيما اذا كان فيه حفلة الساعة عشرة. الفيلم الجديد بتاع واحدة رقاصة بتلعب بالعين والحاجب وبتلعب كورة كمان!
قلت في سري دون صوت: وأنت كمان عرفت وشفت اللي بتلعب بالعين والحاجب.
ثم سألته: موش فيه عندك مدرسة لسه فاتحة أول امبارح. سبتوا المدرسة ازاي. والمدارس لسه بتقول يا فتاح يا عليم؟
لم يرد علي سؤالي. وانطلق ليلحق زملاءه الذين وقفوا أمام شباك تذاكر أقرب دار للسينما تعرض فيلما لشجيع السيما هذه الأيام. سألت التلميذ الواقف أمام الشباك: هو فيلم مين يا باشا؟
قال: ده فيلم لشجيع السيما. ورقاصة بتلعب كورة!
يعني ببساطة ومن غير لف ودوران اكتشفت أن التلاميذ يزوغون من مدارسهم من أول اسبوع تفتح فيه المدارس أبوابها. تري ماذا سيفعلون فيما بقي من العام الدراسي كله؟
الأرقام تقول أن واحد وعشرين مليون تلميذ انتظموا في فصولهم داخل مدارسهم؟ تري كم دخل بالفعل؟ وكم انتظم في المدارس من الـ21 مليون تلميذ وهم عدد التلاميذ هذا العام كما أعلنت وزارة التعليم؟ وكم لم يذهب منهم أصلا؟ وكم عدد الذين يزوغون من مدارسهم كل صباح ولا يذهبون؟ وكم تسرب من التعليم كله. ولم يدخل لا مدرسة ولا حتي كتَّابا لتحفيظ القرآن. لضيق ذات اليد؟
طاشت كرة قذفها أحد الصبية المزوغين واستقرت أمامي. التقطتها وقلت لصاحبها التلميذ الصغير ذي العيون السود والشعر المفلفل الذي جري يلهث خلفها: يا أمير الأمراء. ممكن أسألك سؤال. أنا زي والدك وقلبي عليك وعلي زمايلك؟
قال: أيوه يا حضرة اتفضل. بس ما تكلمنيش عن زمايلي. لحسن احنا رايحين السيما وخايف مانلقاش تذاكر. حاكم أول حفلة بالنهار دي بتبقي موت!
أسأله: موت ازاي؟
قال: كلها عيال وصنايعية وتلامذة مزوغين من مدارسهم!
قلتله: قولي كده بصراحة أنتم بتزوغوا من المدارس ليه واحنا لسه في أول السنة؟
قال: أنا حا اقولك بس ما تقولش إن أنا اللي قلت لك!
قلت له: سرك في بير. اتكلم؟
قال: أولا في أول السنة المدرسون لسه نصهم ما جاش. وإن جه المدرس وحضر يقعد يسألنا في مقررات السنة اللي فاتت. واللي موش عارف من التلامذة يوقفه كراكون ذنب قدام السبورة. أو يديله كلمتين سخنين في جنابه. أو يطلعه من الفصل يقف في الحوش. يقابله حضرة الناظر لاجل حظه العكر. بكسر العين والكاف - يقوم يقوله روح يا حبيبي. وبكره هات معاك ولي أمرك!
اسأله: كل المدرسين بيعملوا معاكم كده؟
قال: لا. فيه اللي ما نامش طول الليل من الدروس الخصوصية اللي بيديها. يقوم يقول للأولاد: حلو مسألة الجبر اللي اديتهالكم امبارح ومعاها مسألة حساب المثلثات.
ثم يضع راسه علي المكتب مستندا علي ذراعيه. وهات يا نوم وهات يا تشخير. ما هو بعيد عنك ما بينامش بالليل. عشان الدروس الخصوصية!
قلت له: طيب يا شاطر الشطار وبقية المدرسين اللي بيدخلوا لكم طول اليوم!
قال: فيه مدرسين عندهم ضمير ومابيدوش دروس خصوصية. وبيشرحوا الدرس كويس جدا. لكن تقول لمين. المدرس عمال ينبح في حسَّه بالساعة. والأولاد في عالم تاني. اللي بيسمع مزيكة في الموبايل وعامل نفسه بيسمع درس المدرس وهو ولا هنا.
قلت له: يعني فيه مدرسين عندهم ذمة وضمير وبيدو التلميذ حقه في الشرح؟
قال: أيوه فيه طبعا. لكن دول يمكن واحد واللا اتنين واللا حتي ثلاثة. والباقي كله من صنف وملَّة - بشد اللام وسكون التاء - اللي يحب النبي يزق!
أسأله: يعني ايه يا كابتن؟
قال: يعني من المدرسين الأرزقجية اللي عايشين علي الدروس الخصوصية. أما حق المدرسة والتلامذة ولقمة العيش. كله في الباي باي!
أسأله: يعني ايه يا حبيبي في الباي باي دي؟
قال: هي كده يا حضرة مفهومة من غير شرح ومن غير درس خصوصى. وسيبني بقي الحق أصحابى!
أيام الملك فاروق الأول. ملك مصر والسودان. وهذا هو الكارت بتاعه. أيام كانت مصر والسودان حتة واحدة - كما يقول أهل النوبة - وليس ثلاث حتت. يعني ثلاث دول: مصر والسودان وجنوب السودان. ولا نعرف ماذا سيحدث غدا وبعد غد؟
أيام الملك فاروق - وأرجو ألا يزعل أحد مما سأحكيه هنا. فالتاريخ ليس فيه نقاش أو فصال. أو حتي زعل!
أقول أيام الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان. في الخمسينيات من القرن العشرين. كنت تلميذا صغيرا في سنة ثالثة أبتدائي في المدرسة الأميرية في شبين الكوم. وكنا نلبس بنطلون وشورت رمادي وجاكيت أزرق ورباط عنق أحمر وحذاء أحمر بيلمع. ورفضنا أن يلبس الطربوش ونقف في طابور الصباح لتحية العلم والغناء للملك المفدي. وكان مدرس التربية البدنية يمر علينا في الطابور ليتأكد من حسن هندامنا وقص أظافرنا قبل أن يدق جرس الدخول.
وكان ناظر المدرسة الأميري الأبتدائي أيامها يحمل درجة الباكوية وأذكر أن اسمه كان إبراهيم بك حنظل - وكان حنظلا بالفعل يقف معنا ساعة تحية علم مصر الأخضر الجميل بتاع زمان. وإذا تأخر تلميذ عن حضور طابور الصباح لا يسمح له بالدخول. ويروح علي بيتهم. وهذا هو نفس تعبيره!
وكنا نتناول كل يوم وجبة ساخنة لحم وأرز وخضار + فاكهة. في مطعم المدرسة. وكان الفراشون الذين يقدمون لنا الطعام يرتدون جلبابا أزرق بحزام أحمر زي اللوكاندات تماما. كل ذلك ندفع مقابلا كل سنة 65 قرشا حتة واحدة مصاريف مدرسة. وكانت أمي تقول عنها: دي كتير قوي. كانت أيام!
ولم يكن علي أيامي حاجة اسمها دروس خصوصية - ولا حتي مدارس خاصة - إلا مدرسة واحدة فقط اسمها: المساعي المشكورة. وكانت مدرسة عظيمة حقا.
علي فكرة من مدرستي الأميرية هذه بالذات خرج نصف وزراء وكبراء وعظماء مصر. بدون ذكر أسماء!
وكان فيها ملعب - في مدرستي هذه - كرة قدم وكرة سلة وصالة تنس طاولة بنج بونج وقاعة للرسم ومصلي وقاعة موسيقي تضم بيانو رائع + 3 كمان + أجهزة نفخ موسيقية نحاسية ثم مسرح كبير تقدم فيه مسرحيات وحفل آخر العام الذي يحضره مدير المديرية يعني المحافظ الآن. وهو يحمل عادة لقب البكوية!
ولكي نحب الرياضة. كان هناك حاجة اسمها القسم المخصوص ويقدم لنا شورت أبيض وفانلة بيضاء وحذاء أبيض وشراب أبيض لكي نحب الرياضة ونلعب وندفع مقابل هذا كله خمسة قروش فقط لا غير!
وأذكر أن والدي وكان مهندسا للرى بعد أن حملت إلي المنزل لبس - بكسر اللام - القسم الخصوصي الرياضي بعد أن دفعت القروش الخمسة التي أعطتها لي أمي. وكان أخي صلاح في مدرسة المساعي المشكورة الخاصة المجاورة. قال لي: ممكن ندفع خمسة قروش كمان لأخوك وياخذ لبس القسم الخصوصي زيك كده!
إذا كان التعليم في مصر قد انحدر انحدارا كبيرا حتي أصبحنا - أردنا أم لم نرد - في ذيل الأمم. وأصبح خريج الجامعة لا يعرف من بني الهرم الأكبر - هل هو الملك خوفو. أم كما قال واحد منهم دون خجل. أنه سيدنا آدم عليه السلام!
فاسمحوا لي أن أقدم لهم هذا الخبر المثير:
- في مدارس دولة أرمينيا في أوروبا يتم تعليم الطالب لعبة الشطرنج وعمره لم يتجاوز الـ6 سنوات. يعني من أولي ابتدائي. حيث أنهم لا يعتبرون الشطرنج مجرد لعبة للتسلية ولكنها مادة أساسية في المناهج الدراسية. فيها نجاح وسقوط!
ونحن هنا في مصر في المقابل. فتحنا مقاهي وكافيهات في كل مكان. وكل ساعة من ليل أو نهار لفتياتنا قبل فتياننا لتدخين الشيشة والنرجيله وجوزة المعسل قص وسلوم والسهر واللعب حتي الفجر. والله يرحمك يا شيخ رفاعه الطهطاوي الذي أراد مع الدكتور طه حسين أن يصحوا بشعب مصر ويخرجه من الظلمة والعتمة إلي النور. ومعهم أعظم جيل أنجبته مصر علي كوكب النور والتنوير: رفاعه الطهطاوي وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وزكي نجيب محمود وعباس العقاد وقاسم أمين ولويس عوض وبنت الشاطر ومحمود تيمور وعبدالرحمن الشرقاوي وأمير بقطر وجورجى زيدان وقاسم أمين وسليم وبشارة تقلا صاحبي الأهرام وجمال حمدان صاحب كتاب شخصية مصر وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم. ومعهم اعظم من أمسك بالريشة والأزميل: محمود سعيد وصلاح طاهر ومحمود مختار صاحب تمثال نهضة مصر. وخد معهم أساطين الفن من فناني الشعب العظام: يوسف وهبي ونجيب الريحاني وقيثارة النيل أم كلثوم وبلبل الشرق محمد عبدالوهاب. والمغرد فريد الأطرش والعندليب عبدالحليم حافظ.
ما رأيكم دام فضلكم نختم بدور شطرنج عشان بس نتعلم من بلد صغير اسمه أرمينيا جعلت الشطرنج. مادة أساسية من سنة أولي أبتدائي في موادها الدراسية ولكن احنا برضه اللي سبقنا العالم كله وخرمنا التعريفة. كما يقول أولاد البلد فى حارة حنكش وبنكش فى بولاق؟.

Email:[email protected]
لمزيد من مقالات عزت السعدنى

رابط دائم: