من أجمل ما تمنحه المهرجانات السينمائية الدولية هو مطالعة أعمال فنية رائعة تقدم لنا رؤي متعمقة حول العالم، وتسهم في تغيير نظرتنا له. وعندما يختص الأمر بعرض افلام عربية في أهم المحافل السينمائية بالعالم، يصبح الأمر كمهمة عظيمة تحاول تغير الصورة النمطية عن شعب وأمة بأكملها عانت من تقديمها على الشاشة خلال المائة عام الأولي من عمر السينما بشكل مشوه وبشع.وهو ما كان مادة الكتب الشهيرة التى اصدرها البروفسور الامريكي من اصل عربي جاك شاهين عن صورة العرب في السينما العالمية. والغريب ان الصورة تغيرت في الـ 15 عاما الاخيرة، وتحديدا بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر حيث اصبح المخرجون والمنتجون في الغرب شديدى الحرص وربما الخوف من التقديم المجاني للعرب كإرهابيين او كشهوانيين او جهلاء، وبفضل ذلك شاهدنا افلام عالمية بها عربي مختلف اقرب الى الحقيقة في افلام مثل سيريانا، بابل، ميونخ.وعندما ننظر للافلام التي قدمها مخرجون عرب في الدورة الأربعين لمهرجان تورنتو السينمائي الدولي، سنفخر حقا انها افلاما جيدة اولا، ثم أمينة ثانيا في عرض الواقع العربى، ثم شجاعة ثالثا في طرح قضاياها لا توارب ولا تنافق الغرب او تمالئه لتنال ذهبه وهو العرض والجوائز في مهرجانات العالم الكبري. وعلي رأس تلك الافلام تتفوق الأفلام الفلسطينية. مخرجة الافلام التسجيلية مي مصري قدمت اولي تجاربها بالسينما الروائية، في فيلم بعنوان: 3000 يوم. وهي تعني هنا مدة 8 سنوات قضتها ظلما شابة فلسطينية بأحد السجون الاسرائيلية. وكان تم القبض عليها للاشتباه في مشاركتها شاب فدائى احدي عملياته. وفي السجن تكشف انها حامل. ويحاول زوجها اقناعها بان تشهد ان الشاب هددها بسكين لتصعد معه السيارة التي قبض عليهما فيها، و في المحكمة تقول الحقيقة بأن الشاب لم يرغمها علي الصعود معه فيحكم عليها بثمانى سنوات رغم انها لم تفعل شيئا. ويحاول زوجها اقناعها بالإجهاض لأنه يشكك في أن يكون الطفل ابنه، لكنها تصر علي الحفاظ علي حملها وتنجب الطفل في السجن. وفى عنبر المناضلات الفلسطينيات، نري اجمل اللحظات بينهن، حيث تتسابق كل منهن لكي تجعل السجن جنة بالنسبة للطفل الذي يكبر وحوله كل الحنان الممكن في العالم. أعظم ما في الفيلم انه قدم شخصية المرأة الفلسطينية في صورة رائعة رغم اختلاف اعمار صديقات الزنزانة، من توأم مراهقتين، لجدة احفادها الشباب مسجونان في السجن المجاور، لفدائية كانت مقيمة بلبنان وقعت ذراعها، لأم شابة تضعف وتتعاون مع الجنود الاسرائيلين للوشاية بزميلاتها لكي يسمحوا لها بالمزيد من الزيارات العائلية. لم تجمل مى مصري شخصياتها بل تشعر انها تركت مساحة كبيرة للارتجال للممثلات رغم الرسم الواضح للشخصيات، وعلى رأسهن البطلة القوية الصلبة (ليال) ووصولا الى أم علي كبيرة العنبر التى تحمل كل صفات الأم باصالتها وحنوها وشجاعتها. ثمة شىء اصيل وحان بهذا الفيلم يجعلك تأنس بشخصياته. ولم تتحاشي مي مصري تقديم السجن الإسرائيلي بوحشيته ولا انسانيته وسجانيه الذين يرون الفلسطينيين ارهابيين هم واولادهم ويستحقون العذاب والموت. بل ولم تخف من تقديم شخصيات إسرائيلية ايجابية تتعاطف مع الفلسطينيين مثل المحامية التي تدافع عنهم وتتهم مديرة السجن بإنها لا انسانية وعنصرية معهم، وسجينة اسرائيلية انقذتها البطلة من الموت فاصبحت تحب الفلسطينيات وتغني معهن الاغاني العربية، رغم توبيخ زعيمة السجينات الاسرائيليات لها طول الوقت. باختصار جرعة الإنسانيات فى الفيلم مذهلة ومركبة وممتعة. استحقت تصفيق جمهور تورنتو رغم التعاطف السياسي المعروف لحكومتهم مع اسرائيل.اما درة التاج في الافلام العربية فهو بلاشك فيلم يا طير الطاير للمخرج الفلسطينى الكبير هاني ابو اسعد الذي اخرجه عن حياة نجم الغناء الغزاوي: محمد عساف الفائز بجائزة محبوب العرب. ابو اسعد الذي سبق له الوصول للتصفيات النهائية لجوائز الأوسكار عن فيلميه الجنة الان وعمر، اصبح اليوم من اهم سينمائيي العالم. وسبق لهوليوود ان عرضت عليه مشاريع افلام لكنها تعثرت. اما في فيلمه هنا، فالسرد احلي من كل افلامه السابقة، والفيلم شديد العذوبة والاثارة معا، وهو الشئ الصعب الجمع بينهما لو تعلمون. لكن اطار الامل الذي احاط به ابو اسعد فيلمه جعل الفيلم أنشودة رقيقة من اجل تحقيق الاحلام. الفيلم في نصفه الاول يقدم عساف الطفل فى سن العاشرة يقضي وقته فى الجري واللعب والحلم رغم الاوضاع بغزة ثم يحاول مع اصدقائه او اقربائه الصغار انشاء اول فرقة غنائية لهم، ويتحملون المصاعب الواحدة تلو الاخري للابقاء علي حلم الغناء رغم خذلان الكثير من الكبار لهم بغزة.بقدرته المذهلة علي السيطرة علي ايقاع متدفق ودافع للامام، ينجح ابو اسعد فى حبس أنفاسنا ونحن نشاهد عساف يتحايل للوصول الي القاهرة حيث تجري مسابقات برنامج اراب ايدول. قبل أن يذهب يتعرض عساف للوم احد اصدقائه المتشدد دينيا عن اشتراكه في برنامج مسابقات علماني ضد الدين. لكن في المسابقة يزول تعب الطريق حيث يجد الجميع يستقبله بافضل صورة لمجرد انه فلسطينى من غزة حتي قبل أن يكتشفوا جمال صوته. وتمضي الأحداث الأخيرة في كيف اشعل عساف الأمل في نفوس الفلسطينيين حول العالم فقاموا بالتصويت له عبر رسائل التليفون، ليقول الفيلم إن بامكان طفل صغير من غزة قادر علي الحلم ان يكون من نجوم الغناء في العالم العربي، بل ربما في العالم، حيث قام عساف بالغناء علي مسرح بمدينة تورنتو أثناء المهرجان وتفاعل معه كل الجماهير متعددة الجنسيات من زوار المهرجان والمدينة بشكل مذهل رغم هطول الأمطار ووجود حفلات مهمة في نفس التوقيت. إنه الانسان العربي القادر علي المعجزات رغم المحن، والسينمائيون الموهوبون يستطيعون ان يثبتوا ذلك بأفضل صورة.
[email protected]