حسب طبيعة النظام. ففى الولايات المتحدة على سبيل المثال فإن القرار السياسى محكوم بأربعة أجهزة كبرى وهى: (جهاز الأمن القومى وله مستشار رسمى، والمخابرات الأمريكية C.I. A)، ووزارة الدفاع، ووزارة الخارجية)، وعلى البيت الأبيض والحاكم الرئيسى الذى يقطنه لمدة (4) سنوات قابلة للتكرار مرة واحدة وفقط، أن يستمع الى كل جهاز على حده وعند الخلاف الجذرى قد يسمح بعقد جلسة مشتركة، وقد يرجح توصيات أحدها، ويصدر القرار على مسئوليته. والمستقر عليه أن عمل جهاز المخابرات فى كل دول العالم يتحرك خارج «الشو الإعلامى»، وغالبية تحركاته سرية، كما لا يميل إلى إذاعة آراء الجهاز، وإنما عليه تقديم ما يراه الى الحاكم ليتخذ ما يتحمله من مسئوليات، ويرجح ما يراه الجهاز ويأمر بالتنفيذ من عدمه. ذلك هو النموذج الأكثر وضوحا الذى نستطيع أن نقدمه للرأى العام.
وفى دول مازالت تحبو فى طريق الديمقراطية، بعيدا عن الخداع فى نظام مبارك ومن رجاله بأن مصر تعيش أزهى عصور الديمقراطية وهو كذب فاجر وفج، فإن جهاز المخابرات يمارس عمله فى صمت ويقدم ما لديه للرئيس أولا بأول، ليتخذ ما يراه ويأمر بما اقتنع به بعد دراسة واعية لكل ما يعرض عليه من أجهزة أخرى. إلا أن مصر مثل نظرائها من الدول الشبيهة، لا يعلن فيها عن تنافر بين الأجهزة، بل الجميع يتوحد مع الرئيس وفى خدمته، وكل ما ينشر أو يذاع، أن لم يكن موجها، فهو يقع فى باب التوقعات والتخمينات، لا أكثر، ولا أقل. وكلما كان الباحث دقيقا ومدققا وأمينا وبعيدا عن الهوى، فإنه يسعى لقراءة المشهد بعين أمينة ليخلص منه الى توقعات أقرب الى الصحة.
ومن واقع المتابعة لمخرجات رموز الدولة خلال الأسابيع الأخيرة خاصة خلال زيارة الرئيس السيسي لنيويورك، ابتداء من ظهر اليوم الأول لعيد الأضحى الخميس 24 سبتمبر 2015م، يمكن رصد أكثر من مشهد، ربما تسهم فى قراءتها معا الى بلورة اتجاه جديد فى السياسة الخارجية المصرية.
1 ـ لقاء وزير الخارجية المصرى سامح شكرى مع نظيره وزير خارجية إيران، على هامش لقاءات الأمم المتحدة بنيويورك.
2 ـ إصرار الرئيس السيسى على حل الأزمة السورية واستمرار الرئيس بشار الأسد كجزء من الحل.
3 ـ التنسيق المصرى الروسى فى التعاطى مع أزمات النظام الإقليمى العربى والشرق أوسطى، الى حد التطابق في الرؤى.
4 ـ الاتصال بين الرئيس السيسى والملك سالمان ـ ملك السعودية، المؤكد أنه يتعلق بالأمر السورى وما حوله.
5 ـ إصرار الرئيس السيسى على اعتبار أن ما يحدث فى المنطقة هو إرهاب، وليس مجرد «تطرف شديد» كما ورد فى كلمة «أوباما»و يعكس الأزمة الصامتة بين مصر والولايات المتحدة تأكدت فى عدم ترتيب لقاء بين السيسى وأوباما مثلما حدث فى العام الماضى.
ـ تلك هى عدة مشاهد سريعة تكشف عن توجهات جديدة فى السياسة المصرية، وفى الخطاب المصرى على لسان رأس الدولة، إنما يعكس أن مصر فى طريقها للتحول فى توجهاتها السياسية الخارجية. وكما سبق القول فى مقال سابق عند لقاء القمة بين السيسى وبوتين فى روسيا منذ عدة أسابيع، بأن مصر تتجه شرقا ولضمان فعالية ذلك يستلزم الأمر تحولات داخلية كبرى خاصة بالوضع الاقتصادى والتنمية الاقتصادية الشاملة وفى القلب منها التنمية الصناعية لضمان استقرار حقيقى وليس مجرد استقرار أمنى ظاهرى، فضلا عن توسيع دور الدولة فى الاقتصاد مع مواجهة حاسمة للفساد لتوفير تمويل كبير لهذا الدور.
وقد لاحظت جهودا كبيرة لجهاز المخابرات المصرية كقناة غير معلنة فى الترتيب والاعداد للتحولات فى السياسة المصرية على طريق استعادة الدور الإقليمى لمصر، وهو دور صامت، يعزز من دور وزارة الخارجية ويدعمهما معا تلك الصفقات الجديدة فى التسليح ومن مصادر عدة (فرنسا/ المانيا/ روسيا/ الصين)، إنما يكشف كل ذلك عن الترتيب والاستعداد بوضع قاعدة ممارسة الدور الإقليمى لمصر، باعتبار أن هذا الدور ليس مجرد كلمات تقال، ولكنه يستلزم مقومات عديدة، ومن حسن الحظ التوافق بين أجهزة صنع القرار فى مصر.
ومن مقومات الدور المصرى، قاعدة اقتصادية ومتنوعة فى إطار مفهوم واسع للتنمية الاقتصادية الشاملة تعتمد على دور رئيس الدولة فى إدارة الاقتصاد الوطنى تفاديا للضغوطات الخارجية علي الاستثمار الخاص الذى يوظف فى إعاقة الدولة المصرية عن ممارسة دورها الاقليمى مثلما كان حادثا فى عهد مبارك حيث استرخى لهذه الضغوطات وكان خانعا لها.
كذلك فإن من المقومات أيضا قاعدة عسكرية قوية ومتنوعة ولا تعتمد على مصدر واحد مثلما كان حادثا مع الولايات المتحدة منذ توقيع كامب ديفيد أيام السادات ومن بعده خلفه المطيع (مبارك).
بالأضافة إلى الاعتماد على الذات والاستقلال الوطنى فى صياغة السياسة الخارجية وتوجهات الدولة تفاديا لتدخلات من دول إقليمية ودولية فى التأثير على قرارات مصر وخيارات السلطة الحاكمة.
ودون الخوض فى تفاصيل مقومات الدور الذى تمتلكها مصر بالفعل وإمكاناتها وقدراتها، وفى المقدمة رئيس يدرك معنى الدور المصرى إقليميا ودوليا، فإن مصر يمكن لها أن تقول «لا»، فى مواجهة الإقليم والعالم، وأن تصر على مواجهة حاسمة مع من يصرون على تعطيل الدور المصرى.
ومازال الحوار مستمرا ومتواصلا.